إنما أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ومن شقاء الإنسان أنه طول حياته يزور كلمة الألوهية «كن» ويريد أن يقبض من الأشياء قيمتها ...!
وأشد ما يؤلمه أن يهزأ منه ما يقول له «كن» فلا يكون منه شيء، فالحكيم لا يتألم إلا ألم الحكمة، والجاهل يتألم بآلام الخيبة والعقاب. •••
على أن كل ألم لو حققنا راجع بلذة أو حكمة أو منفعة، وأفراحنا وأحزاننا - على تناقضها تلتقي كلها منسجمة في الحكمة الأزلية التي قدرتها لمن يفرح ومن يتألم.
وما أشبه آلام الإنسان بألم الطفل المدلل. نراه يحزن لكثرة ما يفرح، ويحول ابتسامته دموعا في عينيه فيتغير في صورته دون أن يتغير في معناه، فيضحك باكيا، ويشكو فتكون شكواه طريقة مرح في غير شكلها، ويكون في نفسه معنى واحد ولكن وجهه الغض اللين يضع لهذا المعنى أساليب مختلفة هي أنواع من ألعاب الطفولة. •••
إننا نسر حين تخضع لنا القوة المحيطة بنا فتؤاتينا، ونألم حين تتمرد علينا، ولكن يا ويحنا! ألا يجوز أن نكون نحن قد تعالينا ففتناها، وتكون آلامنا آتية من سموها على المادة، كما ترى وجه الفيلسوف عابسا تحسبه منظر لوعة وهو منظر فكرة سامية؟
ترفعنا الهموم والآلام؛ لأن عواطف الحزن والشقاء لا تكون إلا من سمو، وهي لا بد أن تكون؛ لأنها وحدها الحارسة فينا لإنسانيتنا، إذ تخلق مع حياة الجسم المادية حياة معنوية للقلب، ونحسها من فقد ما نفقده؛ لأنه لا بد للضمير الإنساني من صوت أليم يقول له أحيانا: أنت سماوي فاترك هذا، وكأن كل لوعة ألم يحسها المرء هي صرخة عاطفة جديدة ولدت في النفس! •••
حين يموت الميت العزيز يولد من موته لذويه الحزن عليه ... تلك بعينها هي طريقة خلق الفضيلة؛ نفقد شيئا فنجد من فقده معنى.
والمرأة بكل قواها ترعى طفلها وتحوطه وتربيه، ولكن ابنها بكل ضعفه يربي عواطفها ويرعاها ويحوطها، وإن دمعه ليجعلها ترى للأشياء مدامع ... فهو خالق فيها؛ لأنه مخلوق منها، وهذا هو التفسير الذي لا غموض فيه؛ لأنه هو ذاته الغموض الذي لا تفسير له.
وكذلك آلامنا هي أطفال معانينا. •••
وقفت يوما على شاطئ البحر، فخيل إلي أنه عين تبكي بها الكرة الأرضية بكاء على قدرها، وتأملت الجبال فحسبتها هموما ثقيلة مطبقة على صدر الأرض، وفكرت في البراكين فقلت لوعة أحزانها تثور وتهمد.
صفحة غير معروفة