لقد كنت والله من وثاق المرض كالسجين المغلغل: يحمل على أعضائه أعضاء من قيود وسلاسل، فلا يجد كل الأمكنة أوسعها وأضيقها إلا جسمه والجسد الحديدي الذي فيه جسمه، وكأنه من الكرب لم يقيد، وإنما أقفل على روحه من ذلك الحديد بقفل يكف هذه النفس، ويحول بينها وبين الدنيا.
فلما احتواني البحر جعلت سلاسلي تذوب فيه شيئا من شيء في يوم من يوم، ثم كأنها لم تكن إلا آثار لون أسود فغسلها البحر ومحاها، أو كانت جمرات ألم أحمر فأطفأها وسال عليها.
ألا ما أعجب رحمة الله! فبينا هموم الإنسان في موضع هي أشد اندماجا من الحديد، إذا هي في موضع غيره متخلخلة أسرع ذوبانا من الملح المبتل: كأن مكانا يلبس أنفسنا ، ومكانا يخلع عنها، أو كأن الأرض بتباين أمكنتها وبقاعها تقابل الأقدار في اختلاف عللها وتصاريفها، حتى يكون السفر من بلد إلى بلد أحيانا كأنه تحول من قدر إلى قدر.
كان المرض يخيل لي أن هواء ناحيتي مستنقع معلق ... فجئت إلى هواء البحر فإذا هو بحر ذائب
2
يحس المتنفس منه أن في صدره مثل الموج على ما ركد فيه مما تركته الأيام والليالي من أحداثها وهمومها، فإذا صدره جياش مصطخب بالحياة يفور بها ويتضرب، وإذا موجة من العافية قد اندفقت في هذا الصدر فثلج وابترد وتنقى كأنما غسل ثم غسل إلى ملء بحر.
وأرى السماء هنا والبحر متدل منها، فكأنها مخيط أزلي، وهذا البحر كله موجة واحدة، وثبت من هناك عن ثبجها الأزرق
3
ووقعت إلى الأرض، أو هذا بحر سائل موار؛ إذ هو يدفع أنفاس الحياة الأرضية الفانية فلا بد أن يجري ويتحرك، وذاك بحر مستقر لثباته على الأزلية الخالدة، ويقع من أحد البحرين ثبات اليقين في روحي ومن الآخر حركة الأمل في قلبي، وتندمج بهما في حياتي روح أيام زاهية مضيئة كأنوار السماء، وروح آمال بلية منعشة كأنفاس البحر.
وأرى البحر مائجا يترشرش ويتناثر وهو بارد، ولكنه يبدو كما يغلي الماء في وعاء على النار، يتقاذف من شدة ما يغلي، يضطرب ويدوي كما يرجف الرعد ترددت هدهدته
صفحة غير معروفة