67
قالت سكينة الجارية: انتظر يا قاسم، عندي شيء لك.
فوقف قاسم حيث ربط النعجة بجذع النخلة، وقف ينتظر الجارية التي ذهبت إلى الداخل، وكان قلبه يخفق، وحدثته نفسه بأن الخير الذي وعد به صوت الجارية إنما يجيء من خير أنبل في قلب صاحبة الدار. ووجد تشوفا عميقا إلى أن يرى نظرتها أو يسمع صوتها؛ ليبرد بالبهجة جسده الذي احترق في الخلاء طيلة النهار. وعادت سكينة بلفافة فأعطته إياها وهي تقول: فطيرة بالهنا والشفا!
فتلقاها بيديه قائلا: اشكري عني السيدة الكريمة.
فجاءه صوتها من وراء النافذة وهي تقول برقة: الشكر للمولى يا ابن الطيبين.
فرفع بالشكر يده من دون بصره ومضى. وردد قولها: «يا ابن الطيبين» في سعادة مخدرة. لم يسمع راعي الغنم قولا كهذا من قبل. ومن قائلته؟ السيدة المحترمة في حيه البائس! وألقى نظرة ودية على الحارة المسربلة بالمغيب، وقال لنفسه: «على رغم تعاسة حارتنا فهي لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة في القلوب المتعبة!» وانتبه من حلمه منزعجا على صوت يصرخ: «نقودي .. نقودي سرقت»! رأى رجلا معمما يهرول في جلباب أبيض فضفاض نحو داخل الحارة قادما من أول حيهم. وتحولت الحارة نحو الرجل الصارخ، فجرى نحوه الصغار، واشرأبت أعناق الباعة والجالسين بالأبواب، وأطلت الرءوس من النوافذ، وارتفعت أوجه من تحت الأرض خلال كوات البدرومات، وخرج رواد المقاهي، وأحيط بالرجل من كل ناحية. ورأى قاسم رجلا قريبا منه، يحك ظهره بعود خشبي من طوق جلبابه، ويتابع المنظر بعينين كليلتين، فسأله عن الرجل قائلا: من الرجل؟
فأجاب ويده لا تمسك عن الحك: منجد كان يعمل في بيت الناظر!
واتجه نحو الرجل سوارس؛ فتوة الجرابيع، وحجاج؛ فتوة آل رفاعة، وجلطة؛ فتوة آل جبل، وسرعان ما أمروا الناس بالابتعاد فتراجعوا خطوات بلا تردد. وقالت امرأة من نافذة ربع في حي آل رفاعة: عين أصابت الرجل!
فقالت امرأة أخرى من نافذة بأول ربوع آل جبل: صدقت، ما من أحد إلا وحسده على ربحه المنتظر من تنجيد فرش الناظر، اللهم اكفنا شر العين.
فقالت امرأة ثالثة واقفة أمام باب بيت وهي تفلي رأس غلام: وكان يا عيني يضحك وهو خارج من بيت الناظر، لم يكن يدري أنه سيصرخ ويبكي، قطعت الفلوس وقرفها!
صفحة غير معروفة