207

أولاد حارتنا

تصانيف

فرفع يديه بالشكر إلى رأسه وقال: خيرك سابق يا ستي.

وفاز بنظرة أخرى وهو يحييها مودعا، ثم ذهب. ذهب شديد التأثر برقتها وعطفها، كحاله كلما أسعده الحظ بلقائها. وذلك عطف لم يعرف مثله إلا فيما يسمع أحيانا عن عطف الأمهات الذي لم يجربه. ولو امتد العمر بأمه لكانت اليوم في مثل عمر هذه السيدة الأربعينية. وكم بدا هذا العطف عجيبا في حارته التي تتباهى بالقوة والعنف. وليس أعجب منه إلا جمالها المحتشم وما ينفخه في روحه من بهجة غامرة. ليست كذلك مغامرات الخلاء المحرقة، بجوعها الملتهب الأعمى وشبعها الخامد المكتئب.

وهرول نحو دار عمه ملقيا عصاه على كتفه، لا يكاد يرى ما بين يديه من شدة انفعاله. وجد أسرة عمه مجتمعة في الشرفة المطلة على حوش الربع تنتظره. جلس مع ثلاثتهم حول الطبلية وقد أعد عليها عشاء من طعمية وكراث وبطيخ. وكان حسن في السادسة عشرة من عمره، طويل القامة، متين البناء حتى حلم عم زكريا بأن يراه يوما فتوة الجرابيع. ولما انتهى العشاء رفعت المرأة الطبلية وغادر عم زكريا الربع، ولبث الصديقان في الشرفة حتى ترامى إليهما صوت من الحوش ينادي: يا قاسم.

فقام الشابان وقاسم يجيبه: نحن قادمان يا صادق.

وتلقاهما صادق ببشر متألق، وكان مقاربا لقاسم في سنه وطوله ولكنه أنحل منه عودا. وكان يعمل مساعدا لمبيض النحاس في أول دكان بحي الجرابيع فيما يلي الجمالية. مضى الأصدقاء إلى قهوة دنجل، وطالعهم لدى دخولهم الشاعر طازة متربعا على أريكته في الصدر، على حين جلس سوارس على كثب من مجلس دنجل عند المدخل، فاتجهوا نحو الفتوة وصافحوه في خضوع على رغم ما يعتز به قاسم وحسن من قرابته. واتخذوا مجلسهم على أريكة واحدة وسرعان ما جاء لهم صبي القهوة بطلباتهم المألوفة. وكان قاسم مغرما بالجوزة والشاي المنعنع. وإذا بسوارس يتفحص قاسم بنظرة ازدراء وتساءل بغلظة: ما لك يا ولد متأنقا كالبنت؟

فتورد وجه قاسم حياء وقال في نبرة المعتذر: ليس في النظافة ما يعيب يا معلم!

فقطب في استياء وقال: لكنها في مثل سنك قلة أدب!

وساد الصمت في القهوة كأن روادها وأدواتها وجدرانها تنصت لكلمات الفتوة. ولحظ صادق صاحبه بعطف لما يعلم عن رقة مشاعره. أما حسن فأخفى وجهه في قدح الزنجبيل حتى لا يكتشف فيه الفتوة الغضب. وتناول طازة الرباب، فانبعثت من أوتارها الأنغام، وتتابعت التحيات لرفعت الناظر ولهيطة الفتوة وسوارس سيد الحي، ومضى الشاعر يقول: «وخيل إلى أدهم أنه يسمع وقع أقدام؛ أقدام بطيئة وثقيلة استثارت ذكريات غامضة كرائحة زكية مؤثرة تستعصي على الإدراك والتحديد. حول وجهه نحو مدخل الكوخ فرأى الباب يفتح، ثم رآه يمتلئ بشيء كجسم هائل؛ حملق في دهش، وأحد بصره في أمل يكتنفه يأس، وندت عنه آهة عميقة، وغمغم متسائلا: أبي؟!

وخيل إليه أنه يسمع الصوت القديم وهو يقول: مساء الخير يا أدهم.

فاغرورقت عيناه، وهم بالقيام فلم يستطع ووجد غبطة وبهجة لم يجدهما منذ أكثر من عشرين عاما.»

صفحة غير معروفة