وتمخضت المقابلة عن عهد جديد في الحارة. فقد اعترف بالرفاعيين كحي جديد مثل حي آل جبل فيما له من حقوق وامتيازات، ونصب علي ناظرا على وقفهم، بمعنى فتوة لهم، يتسلم نصيبهم في الوقف ويوزعه عليهم على أساس المساواة الشاملة. وعاد إلى الحي الجديد جميع المهاجرين الذين فروا من الحارة في فترات الإرهاب، وعلى رأسهم عم شافعي وزوجته وزكي وحسين وكريم. وحظي رفاعة في موته بما لم يكن ليحلم به في حياته من التكريم والإجلال والحب حتى سار قصة باهرة يرددها كل لسان، وتتغنى بها الرباب، وبخاصة رفع الجبلاوي لجثته ودفنها في حديقته الغناء. وقد أجمع الرفاعيون على ذلك، كما أجمعوا على الولاء والتقديس لوالديه. لكنهم اختلفوا فيما عدا ذلك فأصر كريم وحسين وزكي على أن رسالة رفاعة يجب أن تقتصر على مداواة المرضى واحتقار الجاه والقوة، فساروا ومن تبعهم في الحياة مساره، وغالى منهم قوم فتجنبوا الزواج حبا في محاكاته واستعادة لسيرته. أما علي فتمسك بكافة حقوقه في الوقف وتزوج ودعا إلى تجديد حي رفاعة. وقال في ذلك: إن رفاعة لم يكره الوقف لذاته ولكن ليبرهن على أن السعادة الحقة متاحة بدونه، وليقضي على الشرور التي يستثيرها الطمع، فإذا وزع الريع بالعدل، ووجه للبناء والخير، فهو الخير كل الخير.
وعلى أي حال استبشر الناس خيرا، واستقبلوا الحياة بوجوه مشرقة، وقالوا بثقة واطمئنان إن اليوم خير من الأمس، وإن الغد خير من اليوم.
فلماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟!
قاسم
64
لم يكد شيء يتغير في الحارة. الأقدام ما زالت عارية تطبع آثارها الغليظة على التراب. والذباب ما زال يلهو بين الزبالة والأعين. والوجوه ما زالت ذابلة مهزولة، والثياب مرقعة، والشتائم تتبادل كالتحيات، والنفاق يصم الآذان. والبيت الكبير ما زال قابعا وراء أسواره غارقا في الصمت والذكريات، وإلى اليمين بيت الناظر، وإلى اليسار بيت الفتوة، ثم يجيء حي آل جبل، ويليه حي آل رفاعة في وسط الحارة. أما بقية الحارة وهي الناحية المنحدرة إلى الجمالية فكانت مقام من لا صفة لهم ولا نسب، أو الجرابيع كما كانوا يدعونهم، وهم أتعس أهل الحارة وأضيعهم.
وفي هذا العهد ولي النظارة السيد رفعت، وكان كسابقيه من النظار. وكان فتوتها لهيطة وهو رجل قصير دقيق لا يوحي مظهره بالقوة، لكنه ينقلب عند المعركة لسانا من نار في سرعته وحدته وتدميره، وقد نال الفتونة بعد سلسلة من المعارك سالت خلالها الدماء في جميع الأحياء. أما فتوة آل جبل فكان يدعي جلطة، وما زال حيه معتدا بنفسه مباهيا بقرابته للواقف وبأنه خير حي، وأن رجلهم جبل كان أول وآخر من كلمه الجبلاوي وفضله، ولذلك قل أن أحبهم أحد. وكان حجاج فتوة آل رفاعة، لكنه لم يحتذ مثال علي في نظارته، وإنما سار على درب خنفس وجلطة وغيرهما من المغتصبين. كان يستأثر بالريع ويضرب المتذمرين ويحث آله على اتباع سنة رفاعة في احتقار الجاه والثراء!
وحتى الجرابيع كان لهم فتوتهم، ويدعى سوارس، لكنه لم يكن طبعا بناظر وقف. على هذا النحو استقرت الأوضاع، وأكد حملة النبابيت وشعراء الرباب أنه نظام عادل، جرت به شروط الواقف العشرة وسهر على تنفيذه ورعايته الناظر والفتوات.
وفي حي الجرابيع عرف عم زكريا بياع البطاطة بالطيبة، وامتاز بين الناس بقرابته البعيدة للمعلم سوارس فتوة الحي. كان يطوف بأحياء الحارة سائقا عربته مناديا على البطاطة، وفي وسط العربة تقوم الفرن نافثة دخانا معبقا برائحة شهية، تجذب غلمان رفاعة وجبل، كما تجذب الغلمان بالجمالية والعطوف والدراسة وكفر الزغاري وبيت القاضي. وكانت فترة غير قصيرة من حياة عم زكريا الزوجية قد مضت دون أن يرزق بمولود، ولكن آنس وحشته في تلك الفترة صغير يتيم هو قاسم - ابن شقيق زكريا - عقب وفاة والديه ولم يجد الرجل في الصغير عبئا يئوده؛ إذ إن الحياة وخصوصا في هذا الحي من الحارة لم تكن تعلو كثيرا عن حياة الكلاب والقطط والذباب التي تعثر على رزقها في النفايات وأكوام الزبالة. وأحب زكريا قاسم كما كان يحب أباه من قبل، ولما حملت زوجته عقب انضمام الصغير للأسرة تفاءل به خيرا وازداد عليه عطفا، ولم يقل عطفه عندما رزق بابنه حسن.
ونشأ قاسم شبه وحيد، إذ كان اليوم يمضي وعمه بعيد عن الحارة وزوجة عمه مشغولة بدارها ووليدها. ثم اتسع عالمه بنموه فأخذ يلعب في حوش الربع أو في الحارة، وصادق أقرانه في حيه وحيي رفاعة وجبل، وذهب إلى الخلاء فلعب حول صخرة هند، وشرق في الصحراء وغرب، ورقي في الجبل. وكان يتطلع مع الصغار إلى البيت الكبير مفاخرا بجده ومقام جده، ولكنه لم يكن يجد ما يقوله إذا تكلم البعض عن جبل والبعض الآخر عن رفاعة، كما لم يكن يجد ما يفعله إذا انقلب الكلام تشاتما وتماسكا وعراكا.
صفحة غير معروفة