فصمت أدهم مليا، وهو يؤمن بأن أباه قادر على معرفة كل شيء، ثم قال معترفا: تغيرت كثيرا، وتبدو كالنافرة!
فتجلت في عيني الأب نظرة غريبة وقال: هل وقع بينكما خلاف؟ - أبدا.
فقال الجبلاوي في ارتياح وهو يبتسم: يا جاهل، ترفق بها، لا تقترب منها حتى تدعوك، سوف تكون أبا عما قريب.
6
جلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، واحدا بعد آخر، وقد وقفوا طابورا، أوله أمامه وآخره في نهاية المنظرة الكبيرة. ولما جاء آخر المستأجرين سأله أدهم دون أن يرفع رأسه عن دفتره في عجلة وضجر: اسمك يا معلم؟
فجاءه صوت يقول: إدريس الجبلاوي.
فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفا أمامه، ثم وقف متوثبا للدفاع عن نفسه وهو ينظر نحوه بحذر. لكن إدريس بدا في مظهر جديد لا عهد لأحد به. بدا رث الهيئة، هادئا، متواضعا، حزين الطرف، مأمون الجانب، كالثوب المنشى بعد نقعه في الماء. ومع أن هذا المنظر استل من نفس أدهم كل حنق قديم إلا أنه لم يطمئن إلى السلامة كل الاطمئنان، فقال في تحذير مشوب بالرجاء: إدريس!
فأحنى إدريس رأسه قائلا في رقة عجيبة: لا تخف، لست إلا ضيفك في هذا البيت إذا وسعني كرم أخلاقك.
أهذا الكلام اللطيف يصدر عن إدريس حقا؟! هل أدبته الآلام؟ الحق إن خشوعه محزن كفجوره. وألا تعد استضافته له تحديا للأب؟ لكنه جاء دون دعوة منه. ووجد نفسه يشير إليه بالجلوس على مقعد قريب من مقعده، فجلسا معا وهما يتبادلان النظر في غرابة حتى قال إدريس: اندسست في جموع المستأجرين؛ لأتمكن من الانفراد بك.
فتساءل أدهم في قلق: ألم يرك أحد؟ - لم يرني أحد من البيت، اطمئن إلى هذا، لم أجئ لأكدر صفوك، ولكني ألجأ إلى لطف أخلاقك.
صفحة غير معروفة