قال في الوساطة: «وهذا المعنى فاسد لأنه جعل البلاد إنما تضيق بأهلها لضيق الأرض، وأنها لو اتسعت اتساع صدره لم تضق البلاد، ونحن نعلم أن البلاد لم تخطط في الأصل على قدر سعة الأرض وضيقها، وأن الأرض تتسع لبلاد كثيرة، ولاتساع ما فيها من المدن أيضًا، وهي على حالها، وإنما تؤسس وتبدأ على قدر الحاجة إليها، فإذا استمر بها الزمان وكثرت العمارة، وظهر فيها ما يستدعى الناس إليها ضاقت، فإن جاورتها فسح وعراص وسعت وإلا احتمل لها بعض الضيق، فلو اتسعت الأرض حتى امتدت إلى غير نهاية وأمكن ذلك لم تزد البلاد التي تنشأ فيها على مقاديرها» وقد خطأه فيه أبو هلال أيضًا، فقال في الصناعتين: «وذلك أن البلدان التي تضيق بأهلها لم تضق بأهلها لضيق الأرض، ومن اختط البلدان لم يختطها على قدر ضيق الأرض وسعتها، وإنما اختطت على حسب الإتفاق ولعل المسكون منها لا يكون جزءًا من ألف فلأي معنى تصييره ضيق البلدان الضيقة من أجل ضيق. والصواب أن يقول: ورحب صدر لو أن الأرض واسعة كوسعه لم يسعها الفلك، أو لضاقت عنها السماء، أو يقول: لو أن سعة كل بلد كسعة صدره لم يضق عن أهله بلد. والجيد في هذا المعنى قول البحتري:
مفازة صدر لو تطرّق لم يكن ... ليسلكها فردًا سليك المقانب
أي لم يسلكها إلا بدليل لسعتها، على أن قوله: مفازة صدر استعارة بعيدة» انتهى.
وللآمدى كلام طويل عن البيت راجعه إن شئت في الموازنة.
(ومما أدرك) على أبي تمام قوله:
الودّ للقربى ولكن عرفه ... للأبعد الأوطان دون الأقرب
قال ابن سنان في سر الفصاحة: «قيل: لم منع ذوي القربى من عرفه وجعله في الأبعدين دونهم؟ وهلا كان عطاؤه للقريب والبعيد» . وقال أبو هلال: «لا أعرف لما حرم أقارب الممدوح عرفه وصيره للأبعدين؟ فنقصه الفضل في صلة الرحم، وإذا لم يكن مع الود نفع لم يعتمد به» إلى أن قال: «وقد أغرى أبو تمتم بهذا القول أقرباء الممدوح، لأنهم إذا رأوا عرفه يفيض في الأبعدين ويقصر عنهم أبغضوه وذموه» .
قلنا: ولم لا يكون قصد أبي تمام أن الممدوح من بيت مجد وغنى لا يحتاج أقاربه لغير الود منه. على أن مثل هذا ربما لا يعد من نوع الخطأ الذي توخينا ذكره إلا أن يحمل على أنه أراد أن يمدح فهجا (وقوله):
رقيق حواشى الحلم لو أنّ حلمه ... بكفّيك ما ماريت في أنّه برد
قال أبو هلال: «وما وصف أحد من أهل الجاهلية ولا أهل الإسلام الحلم بالرقة، وإنما يصفونه بالرجحان والرزانة» ثم أورد عدة شواهد على ذلك من أشعار الجاهليين والإسلاميين، كقول النابغة:
وأعظم أحلامًا وأكبر سيِّدًا ... وأفضل مشفوعًا إليه وشافع
وكقول عدي بن الرقاع:
أبت لكم مواطن طيّبات ... وأحلام لكم تزن الجبالا
وقول الفرزدق:
إنَّا لتوزن بالجبال حلومنا ... ويزيد جاهلنا على الجهّال
وقال القاضي الجرجاني عن البيت: «البرد لا يوصف بالرقة، وإنما يوصف بالصفاقة والدقة، وقد أقام الرقة مقام اللطف والرشاقة في موضع آخر فقال:
لك قد أرقّ من أن يحاكى ... بقضيب في النعت أو بكثيب
والقد لا يوصف بالرقة» .
قلنا: أما الذي النتقده أبو هلال فصحيح، وأما قول الجرجاني بأن البرد لا يوصف بالرقة فقد نقل التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام عن المرزوقي: أن الرقة تستعمل في صفة الفاخر من الثياب وغيره حتى يقال: عندي ثوب أرق من الهواء.
1 / 27