الإهداء
1 - حياة فرانسيس بيكون
2 - بيكون في سياق عصره
3 - أوهام العقل
4 - صيد «بان»
5 - نظرة نقدية
6 - مكانة فرانسيس بيكون
قطوف من كتاب «الأورجانون الجديد»
الإهداء
1 - حياة فرانسيس بيكون
صفحة غير معروفة
2 - بيكون في سياق عصره
3 - أوهام العقل
4 - صيد «بان»
5 - نظرة نقدية
6 - مكانة فرانسيس بيكون
قطوف من كتاب «الأورجانون الجديد»
أوهام العقل
أوهام العقل
قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
تأليف
صفحة غير معروفة
عادل مصطفى
الإهداء
إلى شباب الثورة الحقيقيين،
لذكرى لحظتهم البيكونية الفذة في 25 يناير،
لحظة الخروج من الكهف، وعشق الهاوية، وعناق المصير،
آملا بهذا الكتاب أن يحولوا لحظتهم العفوية إلى منهج عمل وفلسفة حياة.
عادل مصطفى
16 / 4 / 2012
الفصل الأول
حياة فرانسيس بيكون
صفحة غير معروفة
لا أستطيع الحياة بلا فلسفة.
بيكون
ولد فرانسيس بيكون بلندن في 22 يناير سنة 1561م لأبوين ينتميان إلى أسرتين عريقتين. كان والده السير نيقولاس بيكون حامل الأختام الملكية في عهد الملكة إليزابيث. ويقول ماكولي الكاتب الإنجليزي الشهير: «إن شهرة فرانسيس بيكون قد طغت على صيت والده الذي لم يكن شخصا عاديا؛ إذ إن العبقرية ذروة تسير نحوها العائلة عن طريق المواهب.» وكانت أمه الليدي آن كوك - ابنة السير أنتوني كوك الذي كان يوما معلم العائلة الملكية - امرأة واسعة الثقافة تجيد اليونانية واللاتينية إلى جانب الإيطالية والفرنسية، ومعلمة للاهوت وكلفينية متشددة، تولت بنفسها تعليم بيكون ولم تدخر جهدا في تربيته وتثقيفه، وسرعان ما ظهرت على الطفل مخايل النبوغ والتفوق، فكانت الملكة إليزابيث تعجب بذكائه المبكر وسرعة بديهته، وتلقبه ب «حامل الأختام الصغير». التحق بيكون بجامعة كمبردج وهو في الثالثة عشرة (1573م)، وخرج منها بعد ثلاث سنوات دون أن يحصل على إجازة علمية وفي نفسه ازدراء للمناهج التي تدرس فيها والتي ترتكز على مذهب أرسطو والمدرسيين (السكولائيين)، ووقر في ذهنه منذ هذا العمر المبكر أن الفلسفة السائدة في زمنه هي فلسفة نظرية عقيمة لا تثمر نفعا عمليا، وتركز هدفه الذي سيكرس له حياته في القضاء على سلطة القدماء والدعوة إلى فلسفة جديدة ذات ثمار عملية تعين الإنسان في تحسين حياته وفي السيطرة على الطبيعة، ثم انتقل إلى فرنسا وعمل في السفارة الإنجليزية بباريس قرابة عامين ونصف العام، فاغتنم الفرصة وجعل يتنقل بين المدن الفرنسية ويزور المتاحف والمكتبات ويتابع الأحداث السياسية ويرتاد جلسات المحاكم وحفلات البلاط. وفي عام 1579م توفي والده فجأة دون أن يؤمن له إرثا يكفيه ولا وظيفة تناسبه، فعاد إلى وطنه ليشق طريقه بنفسه، واضطر إلى الاستدانة لإكمال دراساته القانونية حتى أصبحت الاستدانة عادة ملازمة له طوال حياته. انتظم بيكون في سلك المحاماة سنة 1582م، وبعد عامين انتخب عضوا بالبرلمان وانتزع الإعجاب بفصاحته، فكان خطيبا مفوها جزل العبارة محكم السبك لا يشق له غبار، حتى لقد قال عنه بن جونسون - الشاعر الكبير: «لا نجد له نظيرا في رشاقة العبارة والثقة والرصانة ... ولا يملك سامعوه لو سعلوا أو حولوا أبصارهم إلا أن يخسروا.» وكان مسموعا ومجابا أينما تكلم، مالكا عواطف المستمعين بقوة لا يجاريه فيها أحد، وقد بلغ تأثيره الخطابي مبلغا جعل مستمعيه يخشون أن ينتهي من خطابه.
1
وبعد خمس سنوات أخذ يعلم بمدرسة الحقوق، ثم عينته الملكة إليزابيث مستشارا فوق العادة للتاج، فتفانى في مرضاتها حتى لقد غدر غدرا دنيئا برجل أحسن إليه ووهبه أرضا، هو الكونت إسكس؛ إذ تغيرت عليه الملكة واتهم بالتآمر عليها، فترافع بيكون ضده طالبا توقيع الحكم الصارم عليه.
2
وأدين إسكس وأعدم عام 1601م.
وبعد عامين من إعدام إسكس (1603م) توفيت الملكة إليزابيث، وآل العرش إلى جيمس الأول، فتقرب إليه بيكون ومالأه في استبداده وقضاء مصالحه ومصالح الأسرة المالكة، فترقى في المناصب؛ ففي عام 1603م أنعم عليه الملك بلقب «سير» (فارس)، وفي عام 1607م تولى منصب المدعي العام، وفي عام 1613م تولى منصب المحامي العام، وفي عام 1616م أصبح مستشارا خاصا للملك، وفي عام 1617م أصبح حامل الأختام الملكية، وفي عام 1618م صار الوزير الأول ومنح لقب «لورد فيرولام»، و«فيكونت أوف سانت ألبان» عام 1621م، وما كاد بيكون يتسنم هذه الذروة العالية حتى تدهورت مكانته بسرعة فاتهم في نفس العام بالرشوة وبتقاضي هدايا من المتهمين قبل محاكمتهم وأثناءها، ولم يعترض بيكون على الاتهام، بل اعترف به، ولكنه دافع عن نفسه بقوله إن أحكامه لم تتأثر قط بالهدايا. والحق أن أحدا من خصومه لم يجرؤ على اتهامه في أحكامه ذاتها، لقد كان يتلقى الهدايا من طرفي الخصومة ثم يحكم بالعدل، وكان الحكم الذي أصدره مجلس اللوردات هو تغريمه 40 ألف جنيه وسجنه في برج لندن طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وحرمانه في المستقبل من منصبه السياسي ومقعده في البرلمان. وقد حرم بالفعل من تولي أي منصب في الدولة، ولكن الملك أعفاه من الغرامة ولم يدم سجنه إلا أربعة أيام، ومنذ ذلك الوقت عاش معتكفا ومتفرغا لبحوثه وكتاباته، وليته عاش حياته كلها معتكفا! لقد كانت الفلسفة مرضعته في طفولته، ورفيقته في منصبه، وسلواه في سجنه وحرمانه.
ظل بيكون مكبا على العمل والتجريب، ومات في ميدان العمل والتجريب؛ إذ وافته المنية في صباح التاسع من أبريل عام 1626م، بعد أن أصيب ببرد شديد وهو يجري آخر تجاربه لاختبار تأثير البرودة في منع التعفن، بدفن دجاجة مذبوحة في الثلج. وعلى فراش الموت قال قولته الشهيرة: «لقد نجحت التجربة» التي أصبحت شعارا لعصر بأكمله. لقد كان موته مرتبطا بالهدف الذي كرس له حياته، وهو تحويل العلم إلى مجال التطبيق والثمار العملية، وتسخيره لخدمة الإنسان وللسيطرة على الطبيعة.
الفصل الثاني
صفحة غير معروفة
بيكون في سياق عصره
قلما يفشل إنسان في بلوغ النجاح والازدهار في مثل هذا الوقت والبلد، إذا كان يحمل في جنباته بذورا.
ول ديورنت
وجملة ما يقال عنه أنه كان عصرا لا يوجد في عصور التاريخ ما هو أولى منه بتخريج بيكون.
العقاد، «بيكون: مجرب العلم والحياة»
ثمة أعصر تنبغ فيها الأنفس وتستفيق أرواح الأمم،
أعصر ترتع فيها الكائنات وتتعهد ذاتها،
ويشطأ النبت ويعشب الحجر ويدب العصير في عروق الخلائق،
تعجب فيها كم تبلغ الهامات وتسمق القامات،
وتدرك فيها أن الوجد هو الأصل،
صفحة غير معروفة
أن الإبداع هو الأصل،
أن الجمال هو الأصل. «كان بيكون صوت جميع الأوروبيين الذين حولوا القارة الأوروبية من غاب إلى أرض كنوز الفن والعلم، وجعلوا منها مركز العالم.»
1
بدأت اليقظة الأوروبية من سبات العصر الوسيط بروجر بيكون الذي توفي عام 1294م، ونمت وترعرعت في ليوناردو (1452-1519م)، وبلغت كمالها في كوبرنيقوس (1473-1543م) وجاليليو (1564-1642م)، وفي أبحاث جلبرت (1544-1603م) في المغناطيسية والكهربية، وأبحاث فيساليوس (1514-1564م) في التشريح، وأبحاث هارفي (1578-1657م) في الدورة الدموية.
2
وثمة مخترعات ثلاثة لم يعرفها القدماء، هي: الطباعة والبارود والبوصلة، كان لها تأثير هائل، «لقد غيرت هذه المكتشفات الثلاثة وجه العالم وحالته: الأول في المعرفة، والثاني في الحرب، والثالث في الملاحة، ثم ترتبت عليها تغيرات لا تحصى بحيث يمكن القول بأنه لم يكن لأي إمبراطورية أو مذهب أو نجم أي قوة أو تأثير في الشئون البشرية يفوق ما كان لهذه الكشوف الميكانيكية.»
3 «لقد حل الورق محل الجلود الرقيقة باهظة الثمن التي كانت تستخدم في الكتابة، والتي جعلت الرهبان والقسس يحتكرون العلم والتعليم بسبب فداحة أثمان هذه الجلود، وبرزت الطباعة التي طال انتظارها وكانت تكاليفها رخيصة وانتشرت في كل مكان.»
4
كان هذا بمثابة «تأميم للمعرفة»، وتصدع لكهنوت علمي جثم على صدر أوروبا ردحا طويلا من الزمن.
وأما البارود فقد برزت لبيكون أهميته في حماية إنجلترا البروتستانتية من قوة إسبانيا الكاثوليكية، وكذلك في نقل السيادة على البحار من يد الإسبان إلى الإنجليز، وذلك بعد أن أدخلت البحرية الإنجليزية في تصميم بوارجها المدافع الثقيلة منذ عصر هنري الثامن في أوائل القرن السادس عشر.
صفحة غير معروفة
5
وأما البوصلة فقد قهرت جهل الناس بالأرض، وأتاحت لهم التعرف على أصقاع العالم والإبحار فيما وراء «عمودي هرقل»؛
6 «فحتى القرن الخامس عشر لم تكن السفن تغامر بالابتعاد عن الخطوط الساحلية للمحيط الأطلسي؛ وذلك لأسباب منها أنه لم يكن هناك جدوى من ذلك، ولكن السبب الأهم هو أنه لم يكن من المأمون المغامرة بدخول مناطق لم تكن فيها أية معالم توجه الملاح ... لقد كان العالم بالنسبة لإنسان العصور الوسطى حيزا ساكنا متناهيا محكم التنظيم. فلكل شيء فيه وظيفته المقدرة، بدءا من النجوم التي ينبغي أن تسير في فلكها، حتى الإنسان الذي يتعين عليه أن يعيش ملتزما المركز الاجتماعي الذي ولد فيه. غير أن عصر النهضة قد زعزع بجرأة أركان هذه الصورة الهادئة المسالمة.»
7
فمنذ زادت المعرفة قل الخوف، وضعف تفكير الناس في عبادة المجهول واشتد في محاولة التغلب عليه، وعملت كل نفس نشطة بثقة جديدة، وانهارت الحدود ولم يعد هناك حدود أمام ما يمكن الإنسان أن يصنع. وراحت السفن تخوض العالم، وتجاوزت حدود التطرف والإفراط التي يصورها مثل قديم عن سفينة تعود بعد أن وصلت إلى مضيق جبل طارق في البحر المتوسط وقد نقش عليها عبارة: «لا إفراط ولا تفريط». لقد كان عصر تحقيق وأمل وعنف لبدايات ومشاريع جديدة في كل ميدان، عصرا انتظر صوتا ينادي به وروحا محللة تجمل روحه وتشحذ عزمه.
8
في مقدمة كتابه «تفسير الطبيعة» يقول بيكون: «لقد اعتقدت بأنني ولدت لخدمة الناس، وقدرت أهمية الخير العام ... فسألت نفسي عن أكثر الأمور نفعا للناس، وما هي المهمات التي أعدتني الطبيعة لأدائها أو ما هي المهمات التي تتناسب مع مؤهلاتي الطبيعية، وبعد بحث لم أجد عملا يستحق التقدير أكثر من اكتشاف الفنون والاختراعات والتطور بها للرقي بحياة الإنسان ... لقد وجدت في طبيعتي مقدرة على البحث عن الحقيقة، وعقلا دوارا يكفي للبحث عن تلك الغاية العظيمة، أعني إدراك الأمور المتشابهة، وفي الوقت نفسه فقد كان عقلي مركزا تركيزا ثابتا لملاحظة أوجه الخلاف، وكانت بي رغبة للبحث ومقدرة على إرجاء الرأي بالصبر والتأمل والتفكير والقبول بحرص، والاستعداد لتصحيح الانطباعات المزيفة وترتيب أفكاري في عناء وشك وريبة، لم تكن بي لهفة للجديد أو تقدير أعمى للقديم، وكانت لدي كراهية شديدة لكل ادعاء وتدجيل من كل نوع؛ لهذه الأسباب جميعا وجدت في طبيعتي وميولي نوعا من الصلة والقرابة التي تربطني بالحقيقة.»
9
الفصل الثالث
أوهام العقل
صفحة غير معروفة
لم ير أحد أسباب أخطاء الإنسان أكثر من بيكون.
كوندياك
نشر بيكون كتابه الأشهر «الأورجانون الجديد» عام 1620م، وهو الجزء الثاني فحسب من كتاب أكبر هو «الإحياء العظيم»
Instauratio magna ،
1
الذي وضع خطته في ستة أجزاء، ولم يتم منه إلا هذا الجزء، وكان قد كتب من قبل كتاب «النهوض بالعلم» فجعله الجزء الأول من «الإحياء العظيم» بشكل مؤقت، وكلمة «أورجانون» تعني الأداة أو الآلة (أي آلة الفكر)، وهو الاسم الذي وضعه المدرسيون في العصور الوسطى على مجموع مؤلفات أرسطو المنطقية
2
التي كانت أداة كل بحث في ذلك الحين، وقد اختار بيكون هذا الاسم لكتابه تعبيرا عن معارضته لمنهج أرسطو ومنطقه، وبقصد أن ينحيه ويحل محله.
يتضمن «الأورجانون الجديد» جانبين أو قسمين: قسما سلبيا يتناول مواطن الخطأ والزلل في ذهن الإنسان حتى يبذل وسعه لتجنبها، وقسما إيجابيا يتناول قواعد التجريب ويستغرق الكتاب الثاني برمته، وإذا كان الجانب الإيجابي من فلسفة بيكون قد تكشف قصوره وتجاوزه الزمن، فإن الجانب الإيجابي يظل حيا راهنا يلقي أضواء كاشفة على أخطاء رئيسة تحدق بالعقل البشري في كل زمن، ولا يزال البشر يقعون فيها إلى يومنا هذا، الأمر الذي يجعل الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد» كتابا خالدا لا ينفد عطاؤه على مر العصور.
ثمة أربعة أنواع من الأوهام تحدق بالعقل البشري، وتظل تلاحقه في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامه العوائق ما لم يأخذ البشر حذرهم ويحصنوا أنفسهم منها قدر ما يستطيعون، «فدراسة الأوهام هي بالنسبة إلى تفسير الطبيعة مثل الدحوضات السوفسطائية بالنسبة للمنطق العادي.»
صفحة غير معروفة
3
كان بيكون قد عرض لهذه الأوهام في كتاب سابق له هو
Advancement of Learning (تقدم المعرفة/النهوض بالعلم/إنهاض العلم) نشره عام 1605م، ولكنه لم يقيض لها أسماء، أما في الأورجانون الجديد فقد أطلق عليها أسماء تدل على براعة منقطعة النظير في استخدام الاستعارة الحية. (1) أوهام القبيلة
نحن لا نرى الواقع كما هو وإنما نراه كما نحن.
أناييس نين
هذا العالم كما ندركه هو صورتنا الرمزية عن العالم الموضوعي المستقل عنا.
جون إكلس
تتعلق أوهام القبيلة (أوهام الجنس أو النوع) بالطبيعة البشرية بما هي كذلك، وتشمل البشر جميعا:
فنحن جميعا ميالون إلى أن نحتكم إلى حواسنا وأن نجعلها مقياسا للأشياء، وهذا ميل خاطئ لأن الحواس شيء منسوب إلى الإنسان وليس إلى العالم، نحن لا نرى الأشياء كما هي عليه، وإن الذهن البشري أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي طبائعها الخاصة على الأشياء فتشوهها وتفسدها. يقول بيكون في الشذرة 2: 40: «الغلط الكبير للحواس هو أنها ترسم خطوط الطبيعة بالإطار المرجعي للإنسان لا الإطار المرجعي للطبيعة.» كما أن الحواس البشرية قاصرة عن إدراك كل شيء في الطبيعة، إن العين البشرية لا تلتقط كل ضروب الأشعة والموجات، والأذن البشرية لا تلتقط من الترددات الكائنة في الطبيعة إلا قسطا يسيرا جدا، وقل الشيء نفسه في بقية الحواس، من هنا يأتي أكبر عائق للفهم البشري؛ فالأشياء التي تمس الحواس تكون لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرة مهما علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في عامة الأحوال حيثما يتوقف الحس.
ونحن ميالون إلى أن نرى في العالم نظاما واطرادا أكثر مما نجده فيه.
صفحة غير معروفة
ونحن نؤخذ بالشواهد الإيجابية لأي رأي أو اعتقاد، ونغض الطرف عن الشواهد السلبية حتى إن كانت أكثر عددا وثقلا!
4
ويبدو أن الدماغ البشري - بحكم تكوينه - يجد صعوبة في «معالجة» الإشارات السلبية أكثر مما يجدها في معالجة الإشارات الإيجابية، يسمى هذا الخطأ المعرفي - بالمصطلح الحديث - «انحياز التأييد»
confirmation bias ؛ أي البحث عن التأييد دون التفنيد، ويذهب البعض إلى أن هذا الانحياز هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المخلدة لذاتها» و«المحققة لذاتها».
5
ونحن نؤخذ بشواهد لافتة قليلة، ونظن أن كل شيء آخر يسير على غرارها ويجري مجراها، نحن متسرعون في التعميم، نستبق الطبيعة، ولا نجد في البحث عن أمثلة سالبة مفندة تختبر فروضنا اختبار النار.
ونحن لا نفهم الأمور فهما بريئا أبدا؛ ذلك أن فهمنا مشرب دائما بإرادتنا وعواطفنا وأمانينا، نحن نصدق ما نفضله، ونرى ما يطيب لنا أن نراه، ونرفض كل ما هو غير تقليدي خوفا من رأي العامة.
وإن بالعقل البشري ميلا إلى ممارسة نشاطه دون توقف: إنه كالحصان الهائج الذي لا يعرف كيف يقف، ولا يزال يغذ في السير وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصور عنده أن يكون هناك حد ما للعالم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو له دائما - بما يشبه الضرورة - أن هناك شيئا ما وراء ذلك الحد أو النهاية، وشأن العقل البشري مع الزمان كشأنه مع المكان، فليس بوسعه أن يتصور كيف تدفقت الأبدية نزلا إلى يومنا هذا ... وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية والناجمة من انفلات فكرنا وعجزه عن التوقف، ويتجلى هذا الانفلات ويزداد إيذاء في عملية اكتشاف العلل؛ فرغم أن المبادئ القصوى (الأكثر عمومية) في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع محضة هي كما وجدت عليه ولا يمكن أن تحال إلى علة، إلا أن الفهم البشري - في عجزه عن التوقف - ما يزال يتلمس شيئا ما سابقا في نظام الطبيعة، ثم في غمرة جهاده في المضي إلى ما هو أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب! (أقرب مأخذا)؛ أعني العلل الغائبة التي هي أكثر ارتباطا بطبيعة الإنسان منها بطبيعة الكون، والتي هي من أكبر مصادر الفساد في الفلسفة.
6 «إن الغائية مصدرها إنساني، نلاحظها في خبراتنا السلوكية، ونرتكب الخطأ حين نسقطها على الطبيعة.»
7 «ولا شك أن تأكيد بيكون لهذا الميل إلى تجاوز الذهن لذاته يذكر المرء بما سيقوله كانت
صفحة غير معروفة
kant - فيما بعد - عن ميل الذهن إلى تجاوز حدود التجربة والخوض في مسائل ميتافيزيقية لا ضابط لها، ولا دليل على صحتها أو بطلانها، فعمل بيكون في هذا الصدد هو نوع من نقد العقل؛ أعني نقدا للعقل العلمي الذي كان سائدا في عصره.»
8
وفي أواخر الكتاب الثاني (الإيجابي البنائي) من الأورجانون الجديد يقول بيكون: «... ولكن لما كان منطقي يوجه ويرشد الفهم، حتى لا يقبض بكلابات العقل الصغيرة على تجريدات محضة ويتشبث بها، بل يخترق الطبيعة بالفعل ويكتشف خواص الأجسام وقواها وقوانينها المنقوشة في المادة؛ ومن ثم فإن هذا العلم لا ينبع من طبيعة العقل فقط بل من طبيعة الأشياء، فلا عجب أن يمتلئ بإيضاحات وملاحظات مبثوثة في تضاعيفه وتجارب في الطبيعة، كأمثلة على الفن الذي أعلمه.»
9
يميل الفهم البشري بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرا (ثابتا) وواقعا فيما هو عابر ومتغير؛ غير أنه أفضل لنا أن نشرح الطبيعة إلى أجزاء من أن نجردها (وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدما أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة). (2) أوهام الكهف
من رآك من حيث هو فإنما رأى نفسه.
محيي الدين بن عربي
ويبدو واضحا لزقاقنا أن الحقيقي والسوي أشياء من صنعه هو ذاته، ومن صنع منازله وأكوام قمامته.
طاغور
الكهف مصادفة، كل شيء شارك في صوغك وصبك كان شيئا عارضا طارئا،
صفحة غير معروفة
10
كان اعتباطا.
المقصود بالكهف هنا هو كهف الفردانية،
11
فكل فرد من الناس يعيش من نفسه في كهف خاص به يعترض ضياء الطبيعة ويشوهه. إن لكل فرد من البشر تكوينه الجبلي الخاص وموروثه الجيني، وثقافته التي نشأ عليها، وتربيته وظروفه وقراءاته وقدوته وصلاته الحياتية، من الناس من يميل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء وتأمل التفاصيل، ومنهم من هو أميل إلى ملاحظة أوجه الشبه بين الأشياء، وهم أصحاب المزاج التأملي الاستدلالي، وكلا الصنفين من العقول عرضة للشطط، سواء بالتشبث بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه، كما أن بعض العقول مغرم بالقديم وبعضها متيم بالجديد، بينما الحقيقة ينبغي ألا تلتمس في حظوة زمن بعينه فذاك شيء غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة وذاك شيء خالد، وعلى كل دارس للطبيعة أن ينظر بارتياب إلى كل ما يفتن عقله ويأخذ بلبه؛ حتى يحفظ ذهنه صافيا ومتوازنا. (3) أوهام السوق
يظن الإنسان أنه يصنعني ويستخدمني.
الحق أقول لك: أنا الذي أسخره وأسيره.
وأقوده كالمنوم.
ولا أسمح أن يرى من العالم إلا ما أريد له أن يرى.
اللغة
صفحة غير معروفة
لا مكان للحرية إلا خارج اللغة، غير أن اللغة البشرية - لسوء الحظ - لا خارج لها.
رولان بارت
ضيعتنا الألفاظ، سمناها فأكلتنا.
خانتنا الألفاظ، نصبناها شراكا للحق فصادتنا.
حبستنا الألفاظ، عزلتنا تروسها ومفصلاتها عن تروس الأشياء.
وما يوشجها من سر وسيور.
تنشأ أوهام السوق عن تواصل الناس واجتماعهم ومداولاتهم، وهي أخطر أنواع الأوهام، تلك هي الأوهام التي تنشأ عن اللغة وتتسلل إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء. يميل الناس إلى قبول أفكار معينة ويسلمون بها تسليما، وما يدرون أنها مبيتة في صميم اللغة نفسها.
12
يظن الناس أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، بينما الحقيقة أيضا أن الألفاظ تعود وتشن هجوما مضادا على الفهم؛ ذلك أن الألفاظ تكونت في الأصل لكي تلائم قدرة عامة الناس، وهي تحدد الأشياء بخطوط تقسيم تسهل على الذهن العامي، وحالما أراد الذهن العلمي أن يغير هذه الخطوط لتلائم التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم التغيير، «الألفاظ لا تحدد مدلولاتها بكل دقة ولسنا في حياتنا اليومية بحاجة إلى تلك الدقة، ولكن إذا استخدمنا تلك الألفاظ في الحياة العلمية بان قصورها.»
13
صفحة غير معروفة
ومن ثم تنتهي كثير من الحوارات العلمية والفكرية إلى خلافات حول ألفاظ وأسماء بدلا من أن تدخل في صميم موضوعاتها؛ لذا فإن علينا أن نواجه الأشياء مباشرة، ولا نكتفي بمواجهة الأشياء من خلال الألفاظ اللغوية،
14
يقول بيكون: «ما الكلمات إلا صور المادة، أن تقع في حب الكلمات هو أن تقع في حب صورة.» وفي كتابه: «موسيقى الحوت الأزرق» يقول د. علي أحمد سعيد (أدونيس): «إنها ثقافة مؤسسة على خلل أصلي في العلاقات بين الأسماء والأشياء، بل ليس في هذه الثقافة أشياء، كلها ألفاظ واستيهامات، والمعرفة فيها لا تنشأ من استقراء الطبيعة والأشياء وتغيراتها، وإنما تنشأ على العكس من استقراء المقروء: النصوص وتأويلها.»
15
يذكر بيكون نوعين من الأخطاء تفرضهما اللغة على الفهم، فإما أسماء لأشياء لا وجود لها
16 (كالقدر والمحرك الأول وعنصر النار)، وإما أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة غير محددة؛ لأنها جردت من الأشياء على عجل ودون تدقيق (مثل كلمة رطب)، وتتدرج الأسماء في قصورها وافتقارها إلى الدقة، فأقل الألفاظ خطأ أسماء المواد، تليها أسماء الأفعال، أما أكثرها خطأ فأسماء الكيفيات أو الصفات.
كان بيكون إذا مستبقا لتيار كامل في الفلسفة: هو التيار التحليلي الذي جعل الفلسفة برمتها تحليلا للغة يكشف غموضها والتباسها، ويضع يده على مكامن الخطأ في استخدامها، ولكن بيكون لا يغرق في ذلك (إغراق المدرسة التحليلية) بحيث يسوخ في مشكلات لفظية فتفوته المشكلات الحقيقية. (4) أوهام المسرح
كذب الظن لا إمام سوى ال
عقل مشيرا في صبحه والمساء
إنما هذه المذاهب أسبا
صفحة غير معروفة
ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
المعري
إياك واحذر أن تكو
ن من الثقات على ثقة
ابن فارس
هي الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من النظريات والمذاهب التي تفرض نفسها على الأذهان نتيجة احترامنا الزائد لآراء القدماء، إن كل المذاهب التي تعلمها الناس وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات تؤدى على المسرح، خالقة عوالم من عندها زائفة وهمية. وفي مسرحيات هذا المسرح الفلسفي قد تلاحظ نفس الشيء الموجود في مسرح الشعراء: أن القصص المؤلفة للمسرح أكثر تماسكا ووجاهة وإمتاعا من القصص الحقيقية من التاريخ وأقرب لرغبات الناس. يقول بيكون: «ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمها بنفس الطريقة المصطنعة، وإضفاء الاتفاق عليها ما دامت أسباب أغلاطها المتفاوتة هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفات الكلية، وإنما أشمل أيضا كثيرا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي.»
17
ثمة ثلاثة أنواع من أوهام المسرح أو ثلاثة فصائل من الفلاسفة يمثلون هذه الأوهام: الفصيل النظري أو السوفسطائي، والفصيل التجريبي العشوائي
empiric ، والفصيل الخرافي المشعوذ؛ أما الصنف النظري - ويمثله أرسطو - فيخلق عالما من الأفكار المجردة التي لا يقابلها في الواقع شيء: كالمقولات والقوة والفعل، ويعالج كل الموضوعات من خلال هذه الأفكار، وحتى التجارب القليلة التي أجراها كانت نتيجتها قد تحددت مقدما عن طريق الاستدلال، وأما الصنف التجريبي العشوائي فيعتمد على تجارب قليلة لا تخضع لمنهج منظم، يحاول أن يبني منها فلسفة كاملة، ومن هؤلاء: الخيميائيون القدامى الذين يتعجلون الوصول إلى نتائج قبل أن يبنوا أبحاثهم على أساس متين، وأما الصنف الثالث فهم أصحاب الخرافات الذين يمزجون الفلسفة باللاهوت، ولا يفرقون بين التفكير المنظم وبين الأسطورة الشعرية، ومن هؤلاء: فيثاغورس، وكذلك أفلاطون الذي ينتمي إلى هذه الفئة ، ولكن في صورة أدق وأخطر.
18
صفحة غير معروفة
معيار الإجماع
كان هناك شبه إجماع في عصر بيكون على فلسفة أرسطو، ولكن بيكون يقول: «إن مسألة الإجماع هي أيضا خادعة ولا تصمد للتمحيص؛ فالإجماع الحقيقي هو ذلك الذي ينطلق من أحكام حرة تلتقي جميعا - بعد فحص المسألة - في نقطة واحدة، ولكن الغالبية العظمى من الذين قبلوا فلسفة أرسطو قد ارتهنوا أنفسهم لها من خلال الحكم المسبق وسلطة الآخرين؛ الأمر إذا أقرب إلى الاتباع والتحزب منه إلى الاتفاق، وحتى لو كان اتفاقا حقيقيا وعريضا فمن الخطأ الذريع أن نعده تأييدا صادقا وصلبا، ذلك الاتفاق الذي يتضمن قرينة قوية إلى العكس، فبئس الدليل الإجماع في المسائل الفكرية، فلا شيء أثلج لصدور الطغام من ذلك الذي يفتن الخيال ويوثق العقل في أغلال الآراء الشائعة، وما أجدرنا إذا أن نستعير قول فوشيون من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر: «إذا ما غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءك».»
19
معيار القدم
وتتمثل أوهام المسرح أيضا فيما تكتسبه المذاهب القديمة من سلطة بحكم قدمها لا بحكم صدقها. وهو «يفكك» لفظة «القدم»
antiquity
نفسها، ويكشف تهافت فهمنا لها في هذا المقام فيقول: «إن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القدم هو رأي عقيم تماما ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كبر العالم وتقدمه في العمر هو ما ينبغي أن يعتبر «قدما» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماء مسنين فإنهم بالنسبة للعالم محدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص الأكبر معرفة أكبر بالشئون البشرية وحكما أنضج مما نتوقعه من الصغير؛ بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة وتنوع ما رآه وسمعه وتأمل فيه، فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورا أعظم مما نتوقعه من العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرته واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرا من الأشياء الجديرة بأن تلقي الضوء على الفلسفة قد اكتشفت وأميط عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زخرت بها أيامنا، إنه ليكون مخزيا حقا للجنس البشري أن تستكشف أصقاع العالم المادي - الأرض والبحر والنجوم - وتستظهر على هذا النحو المذهل، بينما تبقى حدود العالم الفكري محصورة في الكشوف الضيقة للقدماء.»
20
كان ألونسو الأراغواني يقول في مدح القدم: إنه يبدو خيرا وأفضل في أربعة أشياء: الحطب القديم ليحرق، والخمر القديمة لتشرب، والأصدقاء القدامى ليوثق بهم، والمؤلفون الأقدمون ليقرءوا.
21
صفحة غير معروفة
معيار السلطة «أما عن السلطة فهي من الجبن بحيث تولي ثقة غير محدودة لمعلمين معينين بينما تغمط الزمن حقه. الزمن هو معلم المعلمين؛ ومن ثم فهو سلطة كل سلطة؛ فقد صدق من أطلق على الحقيقة «بنت الزمن» لا بنت السلطة، لا عجب - إذا - إذا كانت قيود القدم والسلطة والإجماع قد كبلت قوى البشر فصاروا عجزة (كما لو كانوا مسحورين) عن مقاربة الأشياء ذاتها.»
22
تلك هي الأوهام وخصائصها، «وكلها أوهام ينبغي التخلي عنها وشجبها، وتطهير العقل وتحريره منها؛ حتى لا يبقى ثمة إلا مدخل واحد إلى ملكوت الإنسان، المدخل القائم على العلوم، مثلما أنه لا مدخل إلى ملكوت السماء إلا عبر طهارة الطفولة.»
23
الفصل الرابع
صيد «بان»
الصياد الماهر يعرف أين كناس الوعل.
أوفيد: فن الهوى
يجمل بيكون منهجه الوسطي في العلم في الشذرة 95 من الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد»، فيقول: «هناك فصيلان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد، أهل التجربة أشبه بالنمل، يجمعون ويستعملون فحسب، وأهل العقل أشبه بالعناكب، تغزل نسيجها من ذاتها. أما النحلة فتتخذ طريقا وسطا بين الاثنين: تستخلص مادة من أزهار البستان والحقل، غير أنها تحولها وتهضمها بقدرتها الخاصة. وعمل الفلسفة الحقيقي لا يختلف عن هذا: فهي لا تعتمد على قوتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدمها التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تغيرها وتعمل فيها الفكر؛ ومن ثم فإننا نأمل الكثير من خلال اتحاد هاتين الملكتين (التجريبية والعقلية) اتحادا أوثق وأصفى مما تم لهما حتى الآن.» في هذه الشذرة يتبين أن بيكون كانت لديه نظرة متوازنة لاستخدام كل من المنهجين الاستقرائي والاستنباطي في البحث العلمي، رغم أن افتقاره للمعرفة الهندسية ربما أعاقه عن تحديد دور كل من المنهجين على نحو دقيق، مثلما تأدى به التأكيد في مواضع أخرى من «الأورجانون» (انظر مثلا الشذرة 82) إلى الاستهانة بالمنهج الاستنباطي الذي أسماه المنهج الاعتقادي (الدوجماوي)، وأن يعول تعويلا زائدا على المنهج التجريبي. (1) المنطق الأرسطي والقياس
كان المنطق هو الأداة الرئيسية التي استخدمها القدامى في استخلاص نظرياتهم وتأسيس علومهم؛ ومن ثم كان نقد المنطق (القبلي
صفحة غير معروفة
a priori ) هو الخطوة الأولى في عملية تطهير الأرض لبناء المنهج الجديد. يتألف المنطق القديم من «القياس»
syllogism
بالدرجة الأساس. يتألف القياس من «قضايا»
proposition ، والقضايا من ألفاظ، والألفاظ تشير إلى معان أو أفكار في الذهن
notions ؛ فإذا كانت هذه الأفكار مختلطة في الذهن أو ملوثة بأوهام العقل (وبخاصة أوهام السوق) يكون القياس كله - والعلم كله بالتالي - قائما على غير أساس؛ ففي عملية التجريد الأصلية - التي تتكون بواسطتها ألفاظ تغدو حدودا في قضايا القياس - خطورة تجعلنا نشك كثيرا في عملية القياس من أساسها.
1
يقول بيكون في مقدمة «الأورجانون الجديد»: «... يأتي المنطق متأخرا جدا بعد أن استفحل الداء وضاع كل شيء، وأصبح العقل من خلال عادات الحياة اليومية ومداولاتها محشوا بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة، هنالك يساهم المنطق في تثبيت الأخطاء لا في كشف الحقيقة.»
فالأقيسة الأرسطية تنتقل من العام إلى الخاص، وتفترض ما نريد أن نبحث عنه ونثبته، فهي عقيمة عادة وقصاراها أن تحمل حملا كاذبا هو «المصادرة على المطلوب»!
2
أليست نتائجها مطمورة سلفا في المقدمات؟ أليست بذلك تدس النتيجة كمقدمة وتجعل المسألة حلا؟! فتعفينا من مئونة الفكر وتديره دورانا آليا بليدا؟ أليست تضحي بمضمون الفكر من أجل شكله وتهمل فحواه لحساب صورته؟
صفحة غير معروفة
القياس كله - حتى لو كان صحيحا من الوجهة الصورية الخالصة - عملية «عقيمة»؛ فهو لا يأتي بجديد؛ لأن نتائجه قابعة سلفا في المقدمات؛ لذا فهو لا يعدو أن يثبت ويدعم أفكارا موجودة من قبل، قد تكون باطلة كل البطلان، ولكنه لا يعين أبدا على اكتشاف الحقيقة، وما القياس إلا طريقة لإقناع الخصم وقهره عن طريق الحجج اللفظية، ولكن هدف العلم ليس قهر الخصوم بل قهر الطبيعة ، وغاية ما يمكن أن ينتفع به من القياس هو استخدامه لنشر الحقائق وإقناع الأذهان بها لا لكشف الجديد منها.
3
يقول بيكون في الشذرة 1: 12: «نسق المنطق الحالي يفيد في تثبيت وترسيخ الأخطاء (القائمة على الأفكار السائدة) أكثر مما يفيد في البحث عن الحقيقة؛ ومن ثم فإن ضرره أكبر من نفعه.» إن المرء ليستدرج بسهولة إلى الخلط بين الاستدلال الصحيح (صوريا)
valid
وبين «الصدق» أو «الحق»
truth ، هنالك يكون ذكاؤه عبئا عليه! وتترسخ أوهامه بقدر مهارته المنطقية نفسها!
4 (2) الاستقراء الأرسطي
ويحمل بيكون بشدة على الاستقراء الأرسطي؛ لأنه يئول في النهاية إلى «قياس»
syllogism ، مقدمته الكبرى هي نتاج عملية إحصاء يقوم على الأمثلة الإيجابية وحدها. والأمثلة الإيجابية بدون الأمثلة السلبية لا تفضي إلى يقين، ولن تكون على أحسن الفروض إلا تخمينا. يطلق بيكون على هذا الاستقراء «التعداد البسيط»
simple enumeration . يقول برتراند رسل في «تاريخ الفلسفة الغربية»: «يمكن أن نوضح الاستقراء بالتعداد البسيط بواسطة حكاية رمزية تقول: يحكى أن موظف تعداد كلف ذات يوم بتسجيل أسماء جميع الأهالي في قرية معينة بمقاطعة ويلز، فكان أول فرد سأله يدعى وليام وليامز، وكذلك كان اسم الثاني والثالث والرابع ... وأخيرا قال الموظف لنفسه: هذا شيء مضجر، من الواضح أن اسمهم جميعا وليام وليامز، سأسجلهم جميعا هكذا وأمنح نفسي إجازة. ولكنه كان على خطأ؛ إذ إن هناك شخصا واحدا كان اسمه جون جونز، ومن ذلك يتبين أننا قد نضل السبيل إذا ما أولينا ثقة زائدة بالاستقراء بواسطة التعداد البسيط.»
صفحة غير معروفة
5
يقول بيكون في الأورجانون الجديد: «ولا يخدعن أحدا كثرة التجاء أرسطو إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى؛ فحقيقة الأمر أنه قد حسم أمره مسبقا ولم يستشر التجربة حق المشورة كأساس لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسف أحكامه اعتسافا، ثم يلوي بالتجربة حتى تلائم أفكاره، ويجرها كما يجر أسير في موكب.»
6
هذا لون من «البروكرستية»
المغالطة ينبغي تجنبها في مجال البحث العلمي مثلما ينبغي تجنبها في جميع المجالات، و«البروكرستية» هي أية نزعة إلى «فرض القوالب» على الأشياء، أو لي الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسرا مع مخطط ذهني مسبق، إنها القولية الجبرية والتطابق المعتسف والانسجام المبيت، إنها افتئات على الواقع قلما يفلت من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة.
7 (3) تدرجية بيكون
Bacon’s gradualism
يقول بيكون في الأورجانون الجديد: «ذلك أن الاستقراء الذي ينطلق من التعداد البسيط هو شيء طفولي، استنتاجاته قلقة وعرضة للخطر من أي شاهد مضاد، وهو بصفة عامة يحكم بناء على عدد صغير جدا من الوقائع، وعلى تلك الوقائع المتوافرة فحسب. أما الاستقراء الذي نريده من أجل اكتشاف العلوم والبرهنة عليها فينبغي أن يحلل الطبيعة بواسطة عمليات نبذ واستبعاد مناسبة، وعندئذ، بعد عدد كاف من السوالب يصل إلى استنتاج الأمثلة الموجبة، وذلك شيء لم يعمل حتى الآن بل لم يحاول، باستثناء أفلاطون الذي استخدم حقا هذا الشكل من الاستقراء إلى حد ما بغرض تمحيص التعريفات والأفكار.»
8 «علينا ألا نسمح للفهم بأن يقفز ويطير من الجزئيات إلى المبادئ القصية والشديدة العمومية (كتلك التي تسمى «المبادئ الأولى» للفنون والأشياء)، ثم ينطلق منها مسلما بيقينها الذي لا يتزعزع؛ ليبرهن بها على المبادئ الوسطى ويفصلها، وهو المتبع حتى الآن؛ إذ إن العقل ميال بطبعه لأن يفعل ذلك، بل هو مدرب عليه ومعتاد من خلال نموذج البرهان «القياسي»
syllogistic ، ولكننا لا نأمل خيرا من العلوم إلا عندما ننتقل على سلم أصيل صاعد بدرجات متتالية بلا ثغرات أو كسور، من الجزئيات إلى المبادئ الصغرى ثم إلى المبادئ الوسطى، الواحد تلو الآخر، انتهاء بالمبادئ الأعم ... لذا ينبغي ألا نزود الفهم البشري بأجنحة، بل بالأحرى بأثقال مدلاة حتى نعقله عن الوثوب والطيران، وهذا ما لم يعمل حتى الآن، وعندما يعمل سيكون لنا في العلوم أمل أكبر.»
صفحة غير معروفة