لا يحوي مؤلف أوغسطينوس المعروف باسم «تعليق حرفي على سفر التكوين» الكثير من الفقرات الجدلية، لكن العمل يقدم العديد من النقاشات حول مشكلات تتعلق بفكرة الخلق وطبيعة الإنسان. والتوتر القائم ما بين الأفلاطونية والإنجيل واضح طوال الوقت في ذلك المؤلف، ومن الممكن قراءة التعليق على اعتبار أنه يميز وعيا أقوى بأن أوغسطينوس اضطر إلى أن يضع مسافة بينهما أكبر مما ظن ذات مرة إبان حياته في كاسيكياكوم. وكان فرفوريوس، الذي لم يذكر اسما في النص، رمزا أساسيا يستقر وراء كواليس التعليق. ولأن الكتاب يحوي القليل نسبيا من الجدل، فهو يتسم بطابعه التفسيري والمؤقت. عندما نظر أوغسطينوس في «المراجعات» التي كتبها في أواخر حياته على هذا العمل، شعر بأنه تنبئي ومؤقت بشكل مبالغ فيه بما يحول دون كونه كتابا مفيدا. ومن المستبعد جدا أن يوافقه القارئ الحديث هذا الحكم السلبي.
يبدو انشغال أوغسطينوس بالأفلاطونية أكثر جلاء حتى في العديد من المواطن بالكتب الخمسة عشر المعروفة باسم «الثالوث»، وهو العمل الذي انتهى منه أخيرا في الخامسة والستين من عمره. تتعاطى الكتب السبعة الأولى مع تقليد الكنيسة، بداية في الكتاب المقدس ومن ثم لدى المعلقين وعلماء اللاهوت الأرثوذكسيين. ولقد أبهره إلى حد كبير العمل الرئيسي المتقن الذي خطه القديس هيلاري أسقف بواتييه قبله بجيل كامل حول الموضوع نفسه. ومن بين المسائل المحورية التي تناولها هيلاري وأوغسطينوس مسألة تتعلق تحديدا بآريوس، قسيس بأبرشية بالإسكندرية في أوائل القرن الرابع. لقد أشعل آريوس جدلا واسعا بأطروحته التي مفادها أن مذهب الثالوث المقدس يمكن أن ينسجم مع التوحيد عن طريق الإقرار بالدونية الميتافيزيقية والأخلاقية للابن حيال الآب، أو بالإصرار عليها حقا. وشعر أوغسطينوس استنادا لسبب معين أن المناقشات المعارضة لآريوس التي خطها الكتاب الأرثوذكسيين، وفيهم أفاضل علماء اللاهوت اليونانيين بالقرن الرابع، كانت أقل فعالية وقوة من اللازم؛ فقد كانت هناك تنازلات مبدئية أكثر من اللازم لأسلوب آريوس في التفكير. تستكشف الكتب الثمانية الأخيرة إمكانية فهم «الثلاثة في واحد» بواسطة سلسلة من القياسات المستخلصة من علم النفس البشري؛ ولذا يناظر نصفا العمل أطروحته المضادة عن الإيمان والفهم.
لم يرفض التقليد الأرثوذكسي آريوس وحسب، بل رفض أيضا الفكرة المنافسة له والمرتبطة بمهرطق مغمور بالقرن الثالث يدعى سابيليوس، ومفادها أن الآب والابن والروح ما هي إلا صفات تعبر عن سمات للرب الواحد. وخلاصة القول، رفض هذا المذهب فكرة أن الآب والابن والروح مجرد صفات وحسب أو أسماء كاملة. بالنسبة إلى الباحثين الفلسفيين المتأملين غير المسيحيين بذلك العصر، جعلت هذه المسألة الأمر يبدو وكأن مذهب التثليث يتحدى الفهم العقلاني. صحيح أن «الرب» سر سام، لكن طريقة الحديث هذه بدت أشبه بصيغة غير مفهومة، وكاد يكون أقرب إلى تعويذة شعائرية لا ينفذ إليها المنطق. وعندما ذكرت هذه المسألة، سخر المفكرون الوثنيون منها.
أثبت أوغسطينوس بسهولة ويسر أن مفهوم كون الرب واحدا وثلاثة في آن واحد أبعد ما يكون تماما عن الرطانة المعقدة لدرجة أن التأمل البسيط في طبيعة الشخصية البشرية يقدم نموذجا فوريا. يشي الاستبطان بثلاثية الوجود والمعرفة والإرادة، وهذه العمليات الثلاث مرتبطة ارتباطا تداخليا بالتبادل وذات أهمية مكافئة. ببساطة هناك ثلاثيات أخرى؛ مثل: الذاكرة والذكاء والإرادة، أو العقل والمعرفة والحب، أو العاشق والمعشوق والحب الذي يربط بينهما. ولكن، لا تتيح أي من تلك الثلاثيات لأوغسطينوس سلما بسيطا يرتقي به إلى الرب الذي لا توجد صورته لدى الإنسان في الجسد، بل في العقل وفي الحرية والمنطق والوعي بالذات. لقد أجابت القياسات التمثيلية باكتساح عن أسئلة النقاد الذين ظنوا أن مفهوم «الثلاثة في واحد» هراء سخيف. لكن مرونتها وتعددية معناها أعظم من أن تسمحا لعقولنا بأن تنقل هذه المفاهيم إلى الرب. تم التوصل إلى أقرب قياس تمثيلي وأفضله في الكتاب الخامس عشر والأخير، وتحديدا في وحدة التفكير والكلام والإرادة وفي العلاقة الوثيقة بين المعرفة والحب.
لم يكن تعبير «القياس التمثيلي»، بالنسبة إلى أوغسطينوس ومعاصريه، يعني تماثلا غامضا، بل شيئا محددا ورياضيا. في موضع واحد أورد تحذيرات من أن الحديث عن القياس التمثيلي للرب يمكن أن يكون أدق من اللازم، فيمسي في نهاية المطاف تجسيدا له (العظات). لقد سلم بوحدة العقل وعملياته، ولم يتكلم عن العقل على اعتبار أنه يمتلك قدرات مستقلة أو أقساما غير تواصلية. ومع ذلك، تحت ضغوط بحثه عن «آثار» أو «بصمات» الثالوث المقدس في روح الإنسان، يمكن تفسير لغته أحيانا على أنها توحي بأجزاء شبه مستقلة للنفس. وشت هذه الحقيقة بصعوبته اللاهوتية؛ فهو لم يستطع أن يجد اصطلاحات لتفسير التمايز بين الآب والابن والروح القدس بوضوح وجلاء؛ ففي أعمالهم فيما يتعلق بالعالم نجدهم غير منفصلين. ومنذ ترتليان في نهاية القرن الثاني، تحدث علم اللاهوت اللاتيني عن «الشخوص الثلاثة في مادة واحدة» (ولم يحمل هذا الاصطلاح الأخير مدلولا ماديا بضرورة الحال)؛ فقد استخدم اصطلاح «الشخوص» لأول مرة لأن ترتليان عثر في العهد القديم، مثلا في المزمور الثاني، على فقرات فسرها على اعتبار أنها حوار بين شخوص مسرحية.
اعتبر أوغسطينوس كلمة «مادة» مقبولة بشروط كاصطلاح للوجود الميتافيزيقي السامي ، ما دامت لا تحمل في طياتها تلميحا بأن في الرب مادة وحوادث. لكن مسألة «الشخوص الثلاثة» أرقته كثيرا؛ فالرب متجاوز لأي عدد، ولا يمكن إحصاؤه. ربما يستطيع المرء أن يقول «ثلاثة» دون أن يجيب عن السؤال «ثلاثة ماذا؟» لطالما كانت فكرة «الشخوص الثلاثة» تقليدا مجتمعيا مقدسا في الكنيسة، وكان أوغسطينوس يحترم استخدامه في كل من الفلسفة وعلم اللاهوت.
شكل 8-1: لوحة فنية معاصرة للقديس أمبروسيوس، ميلانو، القرن الرابع.
وجد أوغسطينوس، مستعينا بلغة أرسطو، اصطلاحي الآب والابن كلمتين تعبران عن علاقة ما؛ وعليه اقترح أن الثالوث اصطلاح علائقي، لكنه غير مادي؛ فالآب هو الينبوع أو مبدأ الربوبية، والابن «مولود» (أي إن علاقته بالآب داخلية بالنسبة إلى الوحدة المقدسة وليس لها ما يشبهها من تعويل النظام المخلوق العارض). والروح القدس «تنبثق» منهما؛ والكلمة مستخلصة من إنجيل القديس يوحنا.
تناول علم اللاهوت اللاتيني للجيل السابق لأوغسطينوس (هيلاري أسقف بواتييه وأمبروسيوس أسقف ميلانو) بالفعل الروح القدس على اعتبار أنه ينبثق من الآب والابن. ثمة عقيدة يونانية معترف بها في مجلس القسطنطينية قالت بأن الروح القدس «انبثق من الآب». ولم يكن لذاك المجلس تمثيل غربي، واتخذ قرارات كنسية غير ملائمة للغرب. والحقيقة أنه أقر عقيدة كانت غائبة عن الغرب لأكثر من 20 سنة بعد وفاة أوغسطينوس؛ ولذا، لم يكن هناك سبب يدعو أوغسطينوس للتردد في التأكيد على أن الروح تنبثق عن الآب والابن. شعر أوغسطينوس أن تناول المسألة بهذه الطريقة يحمي فكرة التثليث من فهمها كثالوث متدرج غير متساو. ولقد أضفت تشديدا أكبر بالكامل على وحدة الرب مقارنة بالصيغة اليونانية. بشكل تدريجي جدا تسللت صيغة أوغسطينوس إلى العقيدة الشعائرية في الغرب. وبعدها بأربعة قرون، أمست هذه النقطة مشكلة توسع الفجوة ما بين العالمين المسيحيين اليونانيين الشرقي والغربي. دافع الغرب المنتمي للقرون الوسطى عن إقحام عبارة «والابن» في العقيدة استنادا إلى السلطة البابوية. وحتى في القرن السادس عشر، احتفظ المسيحيون الذين استبعدوا من تناول العشاء الرباني بصيغة أوغسطينوس في مقابل النص المجمعي الأصلي. ومن ناحية أخرى، لم تبادر الأديرة الكاثوليكية جنوبي إيطاليا بزيادة إضافة أوغسطينوس.
كان لجهود أوغسطينوس في بيان فكرة التثليث عميق الأثر على المفاهيم الغربية اللاحقة المتعلقة بالشخصية. ظن فرفوريوس أن كل الأرواح تشترك في «روح عالمية»؛ مصدر لكل الطاقة والحيوية في الكون المادي. واستغل أوغسطينوس في بداية حياته فكرة الروح العالمية. ولكن، في أواخر حياته لم يزعم أوغسطينوس قط أنه لا وجود لكيان كهذا، لكنه ظن أنه تسرع في شبابه بافتراض أنه:
صفحة غير معروفة