احتج الدوناتيون على أن أفعال الحكومة الإمبراطورية ضدهم لم تبد دليلا على الحب، وأنه كان من الخطأ مبدئيا أن تستغل الكنيسة الكاثوليكية القوة التي يوفرها لها ذراعها العلماني، وأن الكيان الذي يلجأ إلى الاضطهاد بحكم الواقع يزعزع الثقة في ذاته من حيث قدرته على تمثيل كلمة المسيح. ولم يعتقد أوغسطينوس أن هذه الاحتجاجات منطقية بالكامل إذ جاءت على لسان طائفة مسئولة عن قائمة طويلة من أعمال العنف ضد الكاثوليكيين في أفريقيا. ولم يعتقد أيضا أن «التعنيف الأبوي» على المعارضة الإجرامية يرقى لمرتبة الاضطهاد.
بدا بديهيا لأوغسطينوس في نهاية المطاف أن الفعل الذي يحمل الإنسان على الانضمام إلى جماعة التوحيد، حتى لو كان ذاك الفعل مزعجا بعض الشيء، هو حب بحد ذاته. ولكن بالطبع الوسيلة المستخدمة لتحقيق تلك الغاية كان يجب أن تخضع لرقابة وثيقة، ولا يجب أن تتجاوز إلحاق إعاقات طفيفة بأصحاب الممتلكات أو - كما في حالة العمال الريفيين - الجلد الخفيف.
ثمة اختلاف جوهري بين أوغسطينوس والدوناتيين يكمن في مذهب كمال الكنيسة المجاهدة هنا على الأرض. اقتبس الدوناتيون قول القديس بولس أن الكنيسة «لا تشوبها شائبة أو عيب». ولقد سلموا بأنه، حتى بين أبناء طائفتهم، كان هناك أفراد ممن تلقوا الأسرار المقدسة واتضح أنهم ظلوا متمسكين بعناد بمعتقداتهم البالية كما في السابق. ولكن إخفاقات الأفراد ورجال الدين والعامة لم تكن مطلقا كتلويث الكنيسة. ولقد أكدوا أن الكنيسة هي جسد المسيح نفسه، وموطن القداسة، ومجتمع القديسين المضمون بموجب التعاقب الرسولي اليقيني لأساقفتهم.
كان التعاقب الرسولي مهما للكاثوليكيين الأفارقة أيضا؛ لأنه كان الشكل الخارجي الذي ساعد على صيانة تقليد التعليم الرسولي المقدس والأسرار المقدسة. لكنه لم يكن مشددا عليه إلا عندما كانوا يتحدثون عن التعاقب وصولا إلى القديس بطرس في السدة الرسولية التي تمتعوا فيها بالعشاء الرباني بينما لم يتمتع الدوناتيون به (منذ عام 313). ظن أوغسطينوس أن الدوناتيين لم يكن بوسعهم أن يزعموا أنهم يمثلون الكنيسة الكاثوليكية الحقيقية الوحيدة في الوقت الذي كانوا فيه غير متوافقين روحانيا «لا مع روما ولا مع القدس». ولم يعتقد أن بطرس شخصيا كان الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة، رغم أنه في نهاية حياته ذكر أن بعض المفسرين حملوا النص الوارد في القديس متى على هذا المعنى، وأجازوا أن هذا أمر محتمل جدا. فسر أوغسطينوس كلمة «الصخرة» عادة على أنها اعتراف القديس بطرس بالإيمان بالمسيح ابن الرب؛ ونحن «المسيحيون لا نؤمن ببطرس بل بالذي آمن به بطرس» (مدينة الله). يطرح أوغسطينوس القديس بطرس كثيرا كرمز لعمومية الكنيسة الواحدة ووحدتها. وعندما يتحدث عن «السدة الرسولية»، فهو عادة ما يستخدم صيغة الجمع (العقيدة المسيحية).
ومع ذلك، فشأنه شأن غيره من الأساقفة الأفارقة جميعا بالمجتمع الكاثوليكي، كان أوغسطينوس على دراية تامة بحقيقة أن علة الوجود الكاثوليكية في الأقاليم ذات الغالبية الدوناتية إلى حد كبير مثل إقليم نوميديا كانت تعتمد على الاتفاق مع روما. ولقد سلم أوغسطينوس بأن السدة الرسولية من الممكن أن تمارس سلطة إعفاء إذا كانت عملية القانون الكنسي المجمعي الصارمة تتسبب في إحراج شديد. وافترض أوغسطينوس أنه فيما يتعلق بشئون الكنيسة الأفريقية يمكن للأساقفة الأفارقة أن يصدروا حكما متعلقا بالمجمع الكنسي مستقلا؛ لكنهم كانوا يسعدون عندما تعزز السلطة الرومانية من حكمهم. وحيثما حدث ذلك، فلا شك أنه كان يحسم المسألة الجاري مناقشتها؛ قضي الأمر (العظات وفي مواضع أخرى). من ناحية أخرى، كره الأساقفة الأفارقة على استحياء لجوء رجال الدين المدربين في أفريقيا مباشرة إلى الكرسي البابوي، ولم يرق لهم مسألة عدم إحاطة الباباوات أنفسهم علما كاملا بالقضايا موضوع النقاش. في عام 418، وقعت حادثة سيئة السمعة لكاهن مقصر يدعى أبياريوس أوقفه أسقفه مؤقتا حيث لجأ للبابا (زوسيموس) ونال جلسة استماع سخية جدا، لدرجة أن الأساقفة الأفارقة استاءوا جدا من الاستهتار باستقلاليتهم، وطرحوا أسئلة سديدة حول القانون الكنسي الذي بموجبه زعم البابا لنفسه سلطة اتخاذ القرار. وأخيرا، سنوا هم أنفسهم قانونا رسميا «ينص على أنه ما من أحد يجرؤ على اللجوء إلى الكنيسة الرومانية.»
أسف أوغسطينوس أسفا شديدا على رعونة البابا فيما يتعلق بمسألة أبياريوس، واستعداد البابا نفسه للاستماع إلى المهرطقين؛ لكنه بذل قصارى جهده من أجل إخفاء هذه الأمور. كان على يقين من أنه ما من أسقف من أساقفة روما سيقع في خطأ إصدار حكم مناقض للعقل الجمعي لهيئة الأساقفة.
تكلم أوغسطينوس عن الكنيسة باعتبارها جسد المسيح بلغة غنائية، وكانت الكلمة والأسرار المقدسة التي أوكلت للكنيسة سبيل الخلاص وأدواته نفسها؛ ولذا، فالكنيسة هي الحمامة أو العروس المحبوبة لأنشودة الأناشيد، ومجتمع كل المؤمنين، والجسد الذي يمثل المسيح منه الرأس الذي لا ينفصل عنه قط، حتى إن «المسيح الكامل» هو الرب وكنيسته معا بشكل راسخ، والجسد الذي يمثل الروح القدس روحه. وكانت مرثا ومريم ترمزان إلى الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة (لوقا 10)، وهما رمزا النشط والمتأمل. ولكن في هذه الحياة، لا مفر من أن تشوب المجتمع الكاثوليكي التجريبي شائبة. والزلات والأخطاء كثيرة وجسيمة.
لم يشارك أوغسطينوس صديقه جيروم وجهة نظره المتشائمة التي ترى أن الكنيسة المعاصرة تنبأ بها الإسرائيليون في العهد القديم، وشجبها الرسل على اعتبار أنها ميالة ميلا فريدا للردة. وتصوره لرجال الدين المعاصرين له يثبت أن الكم والكيف كانا متدنيين، وأن الفضائح لم تكن أحداثا نادرة. كان يعرف أنه من بين عامة الناس بعض المعمدين ارتكبوا ذنوبا قاتلة، وبعدها قيل لهم إنه لا يجوز لهم حضور العشاء المقدس حتى يبرءوا منها. لكن الخطايا القاتلة تشمل مسائل جسيمة كالزنا أو السرقة. والخطايا البسيطة يبرأ منها المرء بصلاته اليومية للرب وبالزكاة.
بدت لغة الدوناتيين الخاصة برجال الكهنوت المرسومين الضمانة العليا لأسرارهم المقدسة بالنسبة إلى أوغسطينوس التي تحمله على الافتراض مسبقا بمفهوم كهنوتي أكثر من اللازم للكنيسة. كان لدى رجال الكهنوت خدمة ضرورية جدا عليهم أداؤها. وكان الترسيم تقديسا من الروح القدس. وكان من الواضح والجلي أن رئاسة العشاء الرباني يجب أن تمنح للمخول لهم بموجب الترسيم تولي هذا العمل. ولم يحلم أحد (إلا في الطوائف المهرطقة) برئاسة علمانية. لكن أوغسطينوس لم ينظر للكنيسة قط باعتبار أن قوامها رجال الدين. لقد كانت الكهانة مكانة ثانوية، ومجرد خدمة. واستمرارية الكنيسة على العقيدة الرسولية كانت لها في النظام الكهنوتي وسيلة وعلامة، ولكن عندما بحث أوغسطينوس، في تفنيده ل «الخطاب الأساسي» المزعوم لماني، عن تأصيل لحقيقة الإنجيل، تطلع إلى عقيدة الكنيسة الكاثوليكية: «لم أكن لأصدق الإنجيل لو لم تكن سلطة الكنيسة الكاثوليكية تلزمني بأن أفعل ذلك.» ولم يكن أوغسطينوس لينكر نقيض هذه العبارة.
لم يكن أوغسطينوس يظن أن الرب يخاطب الإنسان حصريا عبر العناية الإلهية وعبر الإنجيل والأسرار المقدسة، لكن هذه السبل كانت بالتأكيد الوسائط المحورية الطبيعية. إن كلمات البشر الواردة في الكتاب المقدس وماء التعميد وخبزه وخمره والقربان المقدس كلها عناصر دنيوية واهنة. لكن الرب يجعلها وسائله الخاصة، وهي تبث الحقيقة والعناية الإلهية في القلب المؤمن. ومن دون الإيمان، لا تجدي الأسرار المقدسة الروح نفعا. ومن هنا جاءت المقولة: «آمن وستكون قد أكلت» (معاهدة إنجيل يوحنا). والأسرار الكونية دلائل، أما «الكتاب المقدس فيتكلم عن الدلائل باعتبارها الواقع المشار إليه» (معاهدة إنجيل يوحنا). توظف لغة أوغسطينوس القربانية كلا من اللغة الرمزية المنسجمة مع الأفلاطوني الذي يميل للشعور بالحرج من ظاهرية العلامة المقدسة، واللغة الواقعية المميزة للإنجيل والمرتبطة ارتباطا وثيقا بالفكرة الأخروية الخاصة بتحقيق مملكة الرب هنا والآن؛ وعليه فإننا نجد تمايزا بين السر المقدس والواقع (لم يعن أوغسطينوس أي شيء مادي) ينقله هذا السر المقدس (معاهدة إنجيل يوحنا؛ مدينة الله). أدى به الجدال مع الدوناتيين إلى التشديد على التلقي الداخلي للروح، بينما منعه الجدل بينه وبين المانيين من افتراض أن عناصر العشاء القرباني أكثر دنيوية من أن يستخدمها الرب.
صفحة غير معروفة