ومن ثم، وجد أوغسطينوس الغاية من استنباطاته في فكرة الموجود الثابت السرمدي الضروري. بطبيعة الحال، كان على دراية تامة بأن الغاية منحها إياه الإيمان؛ فما من ساع وراء الحقيقة يبدأ من دون قناعات عن مكانها وكيفية العثور عليها. ولكن الفهم يظل مسألة استدلال واستنباط فلسفي. وطاب لأوغسطينوس الاقتباس (من نسخة سفر إشعياء اللاتيني القديم): «عليك أن تؤمن كي تفهم!» ولكن، كانت العلاقة بين الإيمان والمنطق بالنسبة إلى أوغسطينوس على خلاف ما أمست عليه بالنسبة إلى علماء العصور الوسطى. لقد اتضح أن فرضيات الحقيقة التي يسعى الفهم إلى تفسيرها مسائل غير متعلقة بالوحي، ولكن بما كان يمكن أن يطلق عليه علماء اللاهوت في العصور الوسطى «اللاهوت الطبيعي»؛ (أي) المسائل المثبتة بالحجة الفلسفية دون قبول نسبتها إلى أي كشف أو وحي محدد. في أطروحته عن الإرادة الحرة، يسعى أوغسطينوس لإثبات أنه من المنطقي القبول بالإيمان بالرب والخلود والحرية والمسئولية الأخلاقية؛ وهي القناعات التي عرفها الفلاسفة الأفلاطونيون وأظهروها دون أن يكون لديهم إنجيل يسترشدون به.
تحوي الأطروحات التي كتبها أوغسطينوس في العقد الرابع من عمره إشارات مرجعية لمسألة الخلود، وفي ذلك المقالة الغامضة نوعا ما عن إضفاء الصبغة الأفلاطونية على الجدلية فيما يختص ب «خلود الروح» (وهو العمل الذي لم ينسب إليه هو نفسه مكانة عالية إذ اطلع عليه مجددا في فترة لاحقة من حياته). كانت فكرة الموت حاضرة غالبا في وعيه، وخاصة كلما حصد أرواح الأصدقاء أو الشباب المرضى. لقد وصف حياة البشر بأنها سباق نحو الموت (مدينة الله)؛ وعلى المرء ألا يبدأ كل يوم يحياه «راضيا بأنه صمد ليوم آخر، بل بندم على أن يوما آخر من الفترة المخصصة له على الأرض ضاع إلى الأبد.» وأخيرا، فإن إيمانه بأن الموت ليس النهاية لم يعتمد على الجدلية الأفلاطونية، بل على الإيمان بالمسيح القائم (الثالوث).
الفصل الرابع
مجتمع فلسفي
بحلول خريف عام 388، وبعد القداس الذي أقيم على روح مونيكا في أوستيا، عاد أوغسطينوس إلى موطنه أفريقيا (التي لم يغادرها قط بعد ذلك)، واستقر في مدينته الأم طاغست بغية إجراء تجربة على الاعتزال التقشفي مع القديس أليبيوس وغيره من الأصدقاء. التقى الجمع العلماني بانتظام لأداء الصلاة اليومية ولتلاوة سفر المزامير. (لا يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية سفر المزامير لروحانية أوغسطينوس؛ فقد ثبت أن اقتباسات الترانيم محورية لبنية «الاعترافات» نفسها.) وفيما بين الساعات التي كرسوا أنفسهم فيها للتنسك والعبادة، ناقشوا شيشرون والقديس بولس والأفكار الأفلاطونية. كان الجمع الأكثر طمأنينة، تأمليا في روحه، وأكاديميا نوعا ما، ومعتمدا على أوغسطينوس باعتباره القائد المعترف به الذي يقدم أجوبة عن الأسئلة التي تثار في النقاشات. وتم تداول هذه الأجوبة كتابة، وجمعت لاحقا في كتاب شهير بعنوان «حول 83 مسألة مختلفة». وتشمل المسألة السادسة والأربعون بيانا مهما عن نظرية الأفكار لأفلاطون يصون التوحيد الإنجيلي بزعمه أن المسلمات هي «أفكار في عقل الرب». لم يكن الجمع الطاغستي يسمى ديرا، وتقاسم «مجتمع الأخوة»، كما أطلقوا عليه، الممتلكات وعاشوا عيشة بسيطة مقتصدة، لكن لم تكن لديهم عهود رسمية ولا ملابس متطابقة، ولا قاعدة محددة أو شرط معين للطاعة، وكانوا أكثر ثقافة من أغلب مجتمعات الرهبان اللاحقة عليهم. لقد كان هذا فعليا أول مجتمع رهباني في أفريقيا اللاتينية.
في هذا المجتمع العلماني، عاش أوغسطينوس عامين ونصف العام، وكانت فترة مثمرة لكتاباته. ولقد ميز التحول التدريجي من تدريس العلوم الحرة إلى الانخراط الجاد في علم اللاهوت كتبه الستة «عن الموسيقى». وقد خصص خمسة من الكتب الستة للنقاش التقني المتعلق بالوزن الشعري والإيقاع. وكانت نيته لاحقا أن يستمر في دراساته بمناقشة الجوانب النظرية للنغم، لكنه لم يكتب هذه المناقشة قط، وترك هذا المجال مفتوحا للفيلسوف بوئثيوس بعدها ب 120 عاما. (لم يكن التأليف العملي للموسيقى مسعى مناسبا للمفكر والنبيل في القدم؛ فقد تركت تلك المهمة للرعاع من الرجال والنساء الذين يستعان بهم لتسلية النبلاء بعد العشاء).
والكتاب السادس عن الموسيقى له طبيعة مختلفة، وكان يتمتع بشيء من التداول المستقل. كان هذا الكتاب إعادة صياغة أوغسطينوس لإيمان أفلاطون بأن المبادئ الرياضية تكمن وراء كل شيء في الكون، وأنها الدلائل الأساسية لنظامه القدري. ولا سيما في محاورة طيماوس، درس أفلاطون أن بنية الروح نفسها تتحدد بنسب مرتبطة مباشرة بنسب الفواصل الزمنية في الموسيقى؛ على سبيل المثال، النغمة الثمانية تقع في الفاصل ما بين 2 و1، والنغمة الخماسية ما بين 3 و2، والرباعية ما بين 4 و3، والنغمة الكاملة تستقر ما بين 9 و8. وحقيقة الأمر أن النسب نفسها تحكم المسافات بين الكواكب.
ويذكر أوغسطينوس أكثر من مرة أنه كان سريع التأثر بصوت الموسيقى؛ ففي ميلانو، حيث اعتاد في بداية الأمر على زيارة الكاتدرائية ليبدي إعجابه بالمهارة الخطابية لأمبروسيوس، لم يجد نفسه منبهرا وحسب بمحتوى النقاشات، بل كذلك بإنشاد المزامير. كان يعلم أن الموسيقى المناسبة قادرة على استحضار معنى الكلمات في القلب. عندما كان شابا يافعا، وجد أوغسطينوس الموسيقى لا غنى عنها للحياة كمصدر للسلوان. وعندما بلغ رشده، لم يكن لديه الوقت الكافي لذلك على أي حال، لكنه ظل مقتنعا بأطروحة أفلاطون القائلة بأن ثمة «تناغما خفيا» (الاعترافات، الكتاب العاشر) ما بين الموسيقى والروح. وما من فن آخر يستبعد على الأقل أربعا من الحواس الخمس، ومحكوم إلى هذا الحد بمبادئ الرياضيات. أي قوة يملكها العقل أكثر إدهاشا من قدرته على تذكر الموسيقى دون أن يسمع فعلا أية أصوات حقيقية؟ بدت هذه الملاحظة لأوغسطينوس دليلا صارخا على سمو الروح بالنسبة إلى الجسد.
لقد تركت دراسة تحليل أفلوطين لطبيعة الجمال (الجزء الأول) أثرا عميقا؛ فقد ذهل أوغسطينوس بفعل تغلغل النظام الرياضي في الكون، وكانت هذه فكرة بارزة في محاورات كاسيكاسيوم. وهنالك كان دفاعه عن العناية الإلهية في مادته جماليا وأفلوطينيا؛ أي إن جلاء وعتمة النور والظلام يساهمان في جمال الكل. لكن هذا الجمال ليس وحسب شعورا ذاتيا، بل هو راسخ في الأرقام. فهناك دقة لا في البيئة العديمة الحياة وحسب، بل كذلك في عمليات الحياة البشرية، كما هو واضح من دراسة الأجنة التي تبين كيف يصل الجنين إلى كل مرحلة متعاقبة من مراحل النمو عند فواصل زمنية ثابتة ودقيقة. أضاف أوغسطينوس أنه علاوة على ذلك يعتمد جمال بناية ما على نسبها الرياضية. ويعتمد تناظر تركيب النوافذ على القياسات؛ ولذا، فالجمال له أساس موضوعي. تمتع الأشياء العين لجمالها، وليس العكس. (كان هذا حكما سيوثقه جزئيا وحسب عندما يتحدث عن حب الرجل للمرأة. وأضاف أوغسطينوس أنه بينما يعد تناظر الجسد البشري وتناسبه قابلين للقياس فعليا بلغة الرياضيات، بشكل يجوز أن يبدو للقارئ الحديث ضربا من الرومانسية غير العادية، «فإن آدم لم يحب حواء لأنها جميلة؛ فحبه لها هو الذي جعلها جميلة»: شروحات المزامير.)
في بعض النصوص، نصادف وجهة النظر الأفلاطونية الحديثة العادية التي مفادها أن الرياضيات محطة انتقالية في الرقي من العالم المادي إلى الميتافيزيقا واللاهوت. كان عليه أن يحذر قراءه من الظن بأنه يعني أن الرياضيات البحتة هي ميتافيزيقا من دون شرط أو قيد. ولا ينبغي أن يفترض المرء أن الهندسة طريقة غامضة تحديدا لتناول اللاهوت (مناجاة النفس). على أي حال، يلاحظ أوغسطينوس على غير المتوقع، أن حفنة لا أكثر من علماء الرياضيات البارعين الذين يعرفهم هم الجديرون فعلا بوصفهم ب «الحكماء» (حرية الاختيار
صفحة غير معروفة