أوائل الخريف: قصة سيدة راقية

لويس برومفيلد ت. 1450 هجري
57

أوائل الخريف: قصة سيدة راقية

تصانيف

تردد أيضا على الممرات ذاتها العشاق، الذين كانوا يذهبون أزواجا لا في مجموعات من ثلاثة أو أربعة أفراد، وفي بعض الأحيان كانت تتردد أصداء لنوع مختلف من المرح؛ الضحك الجامح نصف الهيستيري لخادمة مطبخ يتودد إليها سائس أو خادم منزل في زاوية مظلمة بخشونة وحماس جامح. كان عالما كامنا لا يتفتح إلا تحت أستار الظلام. وأحيانا في عتمة الليل، كان السادة، وهم يقودون سياراتهم عائدين إلى المنزل من حفل راقص أو عشاء، يصادفون زوجا من العشاق، يغمرهما الوهج اللامع المفاجئ لمصابيح السيارة، وهما جالسان متعانقان أسفل إحدى الأشجار، أو مستلقيان شبه مختبئين بين شجيرات الزعرور المتشابكة أو الشجيرات الأقدم.

والليلة، بينما كانت أوليفيا وسيبيل تمضيان بالسيارة في صمت طوال الطريق، امتلأ الهواء الساخن برائحة قوية من أزهار الزعرور والرائحة القوية الخبيثة للماشية، التي هبت باتجاههما عبر المروج بفعل النسمات المالحة الضعيفة القادمة من ناحية الأهوار. كان الوقت متأخرا ولم ترصد أضواء السيارة أي عشاق ضالين حتى بلغتا سفح التل بجانب الجسر القديم، وهناك كشف الوهج فجأة عن ظل رجل وامرأة جالسين معا مستندين إلى الجدار الحجري. وحين اقتربتا منهما، انسلت المرأة بسرعة خلف الجدار، ثم تبعها الرجل وقفز بخفة مثل الماعز إلى الأعلى ومنه إلى الحقل المجاور. ضحكت سيبيل وتمتمت: «إنه هيجينز مجددا.»

كان هذا هيجينز. كان من السهل تمييز جسده البدين الرشيق، وملابسه؛ سروال ركوب الخيل وقميص قطني بلا أكمام، وأثار مشهده وهو يقفز فوق الجدار، انطباعا خاطفا مبهما في نفس أوليفيا أشبه بذكرى شبه منسية. وقالت في نفسها إن الغزال الصغير، حين يفزع، لا بد أنه يتوغل بين الأجمات بالطريقة ذاتها. وانتابها فجأة نفس الشعور الغريب اللاذع بالرعب الذي كان قد انتاب سابين في الليلة التي اكتشفته فيها مختبئا بين أشجار الليلك يشاهد الحفل الراقص.

وأصابتها قشعريرة، فسألتها سيبيل: «ألا تشعرين بالبرد؟»

فأجابتها: «نعم.»

كانت تفكر في هيجينز وتأمل ألا تكون هذه بداية لمشاكل جديدة. فقد أتتها مرة قبلئذ فتاة في ورطة؛ فتاة بولندية، ساعدتها وصرفتها لأنها رأت أن إجبار هيجينز على الزواج منها ما كان سيجلب لهما أي شيء إلا الشقاء. وكان سعي نصف فتيات الريف للظفر برجل مغضن وقبيح للغاية، مثل هيجينز الضئيل الوحشي المشعر، لا ينفك يذهلها. •••

وداخل غرفتها أنصتت في الظلام حتى سمعت صوت أنفاس جاك الخافتة، ثم، بعد أن بدلت ثيابها، جلست طويلا تطل من النافذة عبر المروج باتجاه الأهوار. تملكتها إثارة مكبوحة بدا أنها تسري في سائر جسدها وتؤرقها. وفارقها تعب الروح الذي كان قد جعلها تنساق خلال الأشهر المنصرمة إلى نوع من الخمول. شعرت بالحياة تدب فيها، أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى، حتى حينما كانت فتاة صغيرة؛ فتوردت وجنتاها واتقدتا، فوضعت يديها البيضاوين على وجنتيها لتشعر ببعض البرودة التي كانت تفتقر إليها نسمات الليل؛ لكن يديها أيضا كانتا متقدتين مفعمتين بالحياة.

وبينما كانت جالسة هناك، تلاشت الأصوات الآتية من غرفة سيبيل عبر الردهة وفي النهاية ساد سكون الليل إلا من صوت الأنفاس الخافتة لابنها والصرير الغامض المألوف للمنزل العتيق. باتت وحدها الآن؛ إذ كانت الوحيدة التي لم تنم، وصارت أكثر هدوءا، وهي جالسة مطلة على المروج التي يغطيها الضباب . تسللت روائح الليل الدافئة العبقة عبر النافذة، ومرة أخرى أحست بنشوة تسري في الهواء تشبه النشوة التي أحستها وهي جالسة، قبل ساعات، في شرفة سابين المطلة على البحر. وهاجمتها مرة أخرى أثناء قيادتهما للسيارة على الطريق عبر مراعي الأهوار المنخفضة على ضفاف النهر. وبلغت انفعالاتها ذروتها، حين رأت هيجينز، وهو يقفز فوق الجدار مثل الماعز، حتى إن حدة المفاجأة أرعبتها. كان هذا الشعور لا يزال يلازمها إلى حد ما، الشعور الغريب بقوة هائلة جبارة تحيط بها من كل جهة، وتتحرك بسرعة وهدوء، وتقصي أولئك الذين عارضوها وتقضي عليهم.

قالت في نفسها ثانية: «لقد مسني قليل من الجنون هذه الليلة. ماذا دهاني؟» زاد خوفها، رغم أنه كان نوعا مختلفا عن الرعب الذي أصابها في تلك اللحظات الغريبة التي كانت تشعر فيها بحضور الموتى الذين عاشوا في منزل عائلة بينتلاند وبأنهم حولها في كل مكان. فالشعور الذي كان يخالجها الآن لم يكن فزعا من الموتى؛ بل كان رعبا من حياة يملؤها الدفء والعاطفة. قالت في نفسها: «لا بد أن هذا ما حدث للآخرين. لا بد أن هذا ما شعروا به قبل وفاتهم.»

لم يكن ما تقصده هو موت الجسد، بل موت الروح بطريقة ما، موت يترك خلفه أناسا ذابلين مثل العمة كاسي وآنسون، والمرأة العجوز في الجناح الشمالي، وحتى رجل شديد الصلابة والقوة مثل جون بينتلاند، الذي ناضل بشدة أكثر من الآخرين. وشعرت فجأة بأنها عالقة بين قوتين غامضتين، تتصارعان في قتال شرس. كان أمرا مربكا وغامضا، لكنه جعلها تشعر فجأة باعتلال جسدي. تلاشى الإحساس الدافئ بالحياة والإثارة، تاركا إياها باردة وهادئة، ومرهقة في آن واحد، يملؤها شعور واهن بالإعياء، وهي لا تزال تحدق في الليل، ولا تزال قادرة على تمييز رائحة الماشية الكثيفة وأزهار الزعرور. •••

صفحة غير معروفة