ثم نهضت، وقالت: «لقد وعدت سابين أن أذهب معها بالسيارة اليوم إلى بوسطن. سنغادر في غضون عشرين دقيقة.»
انصرفت بسرعة لأنها علمت أن الجلوس وقضاء المزيد من الوقت في الحديث عن مثل هذه الأمور، بينما كانت سيبيل تراقبها بعينين تفيضان بحماس الشباب الذي ما تزال الحياة أمامه، سيكون أمرا محفوفا بالمخاطر.
ومن كل هذا الحديث الذي دار بينهما، علق في ذهن أوليفيا أمران مميزان؛ الأول أن سيبيل كانت ترى أوهارا كهلا، بل يكاد يكون مسنا، لم تعد أمامه أي فرصة للرومانسية؛ والأمر الثاني هو الاحتمال الكبير لمأساة تنتظر فتاة كانت واثقة جدا من أن الحب من شأنه أن يكون علاقة رومانسية رائعة، وواثقة بشدة من الرجل المثالي الذي ستجده ذات يوم. ماذا يتعين عليها أن تفعل مع سيبيل؟ وأين ستجد رجلا كهذا؟ وحين تجده، ما الصعوبات التي سيتعين عليها مواجهتها مع جون بينتلاند وآنسون والعمة كاسي وجميع أبناء العم والأقارب الذين سينظمون صفوفهم في مواجهتها لهزيمتها؟
وذلك لأنها رأت بوضوح كاف أن هذا الشاب الذي تنتظره سيبيل لن يجسد أبدا فكرتهم عن الزوج المناسب. سيكون رجلا بصفات أوهارا، أو حتى هيجينز، سائس الخيل. وتجلى لها بوضوح السبب الذي جعل سيبيل مولعة بهذين الدخيلين؛ كانت قد اتضحت لها الصورة أكثر فأكثر مؤخرا. كان السبب أنهما يتمتعان بقوة غريبة غامضة، يفتقر إليها الآخرون الذين يعيشون في منزل عائلة بينتلاند كلهم، ويتمتعان بحماس متقد وحيوية. فلا النسب، ولا الظروف، ولا التقاليد، ولا الثروة، جعلتهما ينظران إلى الحياة على أنها فارغة لا معنى لها، لا تتطلب منهما أي جهد، أو صراع، أو كفاح. فلم يضلا طريقهما في متاهات مبهمة. كان أوهارا، بعمله وجهده، وهيجينز بعلاقاته الغرامية الخاطفة وقربه من كل ما هو ترابي، لا يزالان يحملان في نفسيهما زهوة الاستمتاع بلذة الحياة. توصلا بطريقة ما إلى بواطن الأشياء حيث لا يزال لكل شيء طعم ومذاق خصب.
وبينما كانت تسير في الردهة، وجدت نفسها تضحك بصوت عال على عناوين الكتب الثلاثة الوحيدة التي أنتجتها عائلة بينتلاند حتى ذلك الحين؛ «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، وكتابي السيد سترازرس: «أفاريز منازل بوسطن القديمة» و«جولات ومحادثات في باحات كنائس نيو إنجلاند.» فكرت فجأة فيما قالته سابين بطريقة لاذعة عن نيو إنجلاند؛ أنها مكان من المرجح أن تصبح فيه الأفكار «أعلى وأقل».
ولكنها أيضا كانت خائفة؛ لأنه في ظل فتنة الحياة المحيطة بها، بدا لها أن فضائل أوهارا وهيجينز هي الأمور الوحيدة في العالم التي تستحق حيازتها. كانت تتوق إلى الشعور بأنها حية، وهو ما لم تشعر به من قبل، وعرفت أيضا أن هذا ما كانت تطمح إليه سيبيل، وهي تتحسس طريقها في سنوات الشباب نحو الرومانسية بأعين شبه مغمضة. كان شيئا استشعرته الفتاة ولم تعه بوضوح أبدا، شيئا علمت بوجوده وبأنه في انتظارها.
3
أخذت سابين تراقب أوهارا وهو يجتاز الحقول أثناء الشفق، وشعرت فجأة أنها تمكنت بحدسها من التغلغل إلى أعماق شخصيته. لعل وحدته الشديدة كانت المفتاح الذي يفتح أقفال روحه بأكملها ويطلق لها العنان، مفتاح عرفته سابين جيدا؛ لأن هذا الشعور لم يفارقها قط طوال حياتها، باستثناء لحظة أو لحظتين من اللحظات العاطفية المفاجئة في مسار حياتها مع كاليندار، عندما تحررت من شعور مؤلم بأنها وحيدة. حتى وهي برفقة ابنتها، تيريز الغريبة الأطوار، كانت وحيدة. كانت تراقب الحياة بالشغف ذاته الذي كانت تراقب به أوهارا وهو يبتعد في مواجهة الأفق، وكانت قد أدركت منذ وقت طويل أن الوحدة كانت لعنة تلازم الأحرار، حتى أولئك الذين ارتقوا قليلا فوق مستوى الإنسانية العادية. وتأملت الحياة حولها، فوجدت أن العجوز جون بينتلاند كان وحيدا، وأوليفيا، وحتى ابنتها تيريز، التي كانت تتجول بمفردها عبر الأهوار بحثا عن الحشرات والنباتات الغريبة. ورأت أن آنسون بينتلاند لم يكن وحيدا مطلقا؛ إذ كان لديه أصدقاء يشبهونه لدرجة حالت دون التمييز بينه وبينهم، وكان يتشارك مع العمة كاسي كل التقاليد والهوس ذاته. كانا جزءا من نسيج، رقعة صغيرة من نسيج الحياة الكامل، لا ينفصلان عنه.
بدا لها أن من بينهم جميعا، كما اتضح لها شيئا فشيئا عن أوهارا، كان هو أكثرهم شعورا بالوحدة. كان لديه أصدقاء، عشرات، بل مئات، في عشرات الدوائر، بدءا من الموانئ التي قضى فيها صباه وحتى العالم المحيط بدورهام الذي قابل فيه آخرين عاملوه بود وليس بالفتور الذي لقيه من جانب عائلة بينتلاند. حظي بالأصدقاء لتمتعه بخصلة مميزة لا تقاوم. ففي أعماق عينيه الزرقاوين المرحتين وفي زوايا فمه المكتنز، الشهواني نوعا ما، كان يكمن نوع من التعاطف الشامل الذي جعله متفهما لمخاوف الآخرين وآمالهم وطموحاتهم ومواطن ضعفهم. وكانت تلك الصفة، التي لا تقدر بمال في مجال السياسة، هي ما دفع أعداءه إلى التشهير به زورا عند كل الناس. لا بد أنه كان يمتلك موهبة تكوين صداقات، وهذا يفسر وجود قطاعات كاملة من بوسطن مستعدة لأن تتبعه أينما ذهب؛ ولكن خلف هذه الروابط الوثيقة غير المتكلفة كان يوجد دائما ستار من نوع ما يفصله عنهم. كان يتصرف بأريحية في الحانات المتواضعة أو في ولائم جولات الصيد الصباحية بنفس القدر من البساطة، ولكن كان هناك جانب منه - الجانب الذي كان يمثل شخصية أوهارا الحقيقية - لم ينكشف لأحد على الإطلاق، الجانب الذي كان يمثل شخصية رجل أيرلندي شديد الحميمية، رومانسي، حالم، تحركه العاطفة، طائش، غير متقيد بشيء، وهذه الشخصية كانت متوارية في موضع لا يمكن لأحد اختراقه. عرفت سابين هذا الجانب من أوهارا؛ إذ كان قد انكشف لها في لمحة خاطفة سريعة عند الإتيان على ذكر أوليفيا بينتلاند. وبعد ذلك حينما فكرت في الأمر، استسلمت له، هي (سابين كاليندار)، التي تتسم بالصلابة، والقسوة البالغة، والتشكك، مثلما فعل أناس كثر قبلها.
وبينما كان واقفا في غرفة الجلوس الخاصة بها، ضخما وقويا ومستقلا، بدا فجأة كصبي صغير، كالصبي الذي صادفته ذات مرة منذ فترة طويلة في وقت متأخر من الليل، جالسا وحيدا وصامتا على حافة الرصيف أمام منزلها في شارع دي تيلسيت. فتوقفت للحظة وراقبته، وبعد قليل اقتربت منه وسألته: «ماذا تفعل على الرصيف في هذه الساعة من الليل؟» فرفع الصبي ناظريه، وقال بجدية: «ألعب.»
صفحة غير معروفة