ولعل هذه الحيوية العجيبة هي التي جعلتك لا تعنى بالصياغة اللفظية؛ فإذا حضرك المعنى وساعفك الخيال حلقت بأي جناح تلقاه، ولعلك لهذا السبب كالشلال المنحدر لا يهمه إلا أن يبدو رائعا وجليلا، وأن يكون مظهرا من مظاهر القوة، من أمثلة نيتشه، ومن أبطال إبسن كبراند مثلا، تؤمن بالقوة، وتحتقر الضعف والضعفاء، وترثي لهم وتبكي عليهم.
وماذا يراد من الشاعر أكثر من أن يكون حيوية تتدفق؟ وما هو الفرق في الواقع بين الشعر وسواه؟ الفرق هو ذلك الاسترسال والتسلسل في الشعر، والتقطع والهدوء في غيره، وماذا يراد من الشاعر أكثر من أن يندمج في الحياة والكون اندماجا تاما؟
وأراك في الحق متصلا بالحياة والكون اتصالا عجيبا، وماذا يراد من الشاعر أكثر من أن يكون فنه ناضجا طليقا؟ وقد عبر شاعرنا عن هذه الروح في قصيدة «طلاقة الفن» أجمل تعبير. •••
لكي نضع أبا شادي ومريديه في مواضعهم، ولكي نحدد بالضبط مكانهم في الأدب المصري الحديث، يجب أن نعين بالضبط أغراضهم في الشعر، ويجب أن نتساءل: هل لهم طابع خاص؟ أم هم يكتبون الشعر جزافا؟ ويجب أن نحدد بالضبط صلتهم بالشعر العالمي الحديث، ويجب أن نعلم حقا مبلغ اتصالهم بالحركة الأدبية العامة، ويجب أن نفهم تماما مقدار ما كان للحرب العالمية من أثر في أذهانهم وأعصابهم.
إن الذي يريد أن يبحث هذا كله يجب عليه أن يحيط إحاطة واسعة بالأدب العالمي، قبل الحرب وبعدها؛ إذ من الثابت أن أهم ميزة للعصر الحاضر هي اتصال الأمم بعضها ببعض، وانحدار التيارات الفكرية وغيرها من بلد إلى آخر، فأصبحنا نرى كاتبا مثل أندريه موروا الفرنسي يغرم بالأدب الإنجليزي ويؤلف كتابا قيما عن الشاعر بيرون، ونرى كاتبا فرنسيا مثل ليجوي يكتب كتابا عن الأدب الإنجليزي يصير مرجعا عند الإنجليز. وبقدر ما تقترب الفوارق من الزوال، بقدر ما تكون التغيرات في الأمم شاملة ومتقاربة. فقد لاحظنا من اطلاعنا على الأدب الحديث في الأمم المختلفة، في إنجلترا وفرنسا وألمانيا مثلا، شبها غريبا في الاتجاهات الشعرية الجديدة: نرى أدباء الشباب يكونون أسرة متشابهة الأفراد وإن اختلفت ملامحهم قليلا، ويضربون على نغمة واحدة وإن تنوعت ألحانهم، ويمكن أن نصفهم وصفا عاما بما كتبه ليجوي عن أدباء الإنجليز الحديثين في كتابه «تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث»، قال: «يتميزون بالرشاقة والإيمان، وأحيانا بالابتكار، وغالبا الصراحة التي تمزق كل المظاهر الخادعة التي تبرقع أوجه التقاليد، ونجد إحساسهم بالواقع ممتزجا بالظرف والحنان، وفي شعرهم استسلام دائم ومرارة وميل للرجوع بالروح إلى مواطن الذكريات الغالية.»
أما نحن في مصر فبين عاملين: عامل الأدب العربي بتقاليده المحفوظة وحرماته المتوارثة، وبين ما وصل إلينا من ثقافة أوروبا. وبينما نحن لا يمكننا مطلقا أن ننفصل عن مجد قوميتنا؛ فإنا كذلك لا يمكننا أن نهرب من تيار أوروبا الذي يغمرنا غمرا. يستحيل أن نعيش في عزلة، يستحيل ألا نقرأ باللغات التي تعلمناها، فإذن نحن لا نزال نقرأ المتنبي مثلا، ونحبه ونحفظ له، ولا يمنعنا ذلك من تناول ديوان للشاعر ت. س. إليوت فيه شعر عصري حديث، عليه طابع الزمن الحاضر بكل ما فيه من حركات اقتصادية واجتماعية، أو ديوان للشاعر إميل فارهارت مثلا فيه شعر عن الآلات والمعامل.
فماذا تصنع مدرسة أبولو إذن؟
ماذا يصنع أبو شادي؟ ولأي غرض يرمي حين يخرج ديوان «أطياف الربيع» أو «الشعلة» أو غيرهما من دواوينه؟
من هم هؤلاء - شعراء الشباب - ولأي فريق ينتمون؟ أرومانطيقيون هم؟ أم شعرهم واقعي؟ أم بين هذا وذاك؟
إن شعرهم جميعا له تلك الصفات التي سبق أن ذكرتها عن ليجوي: ويبدو أن شعراء الشباب عندنا شديدو الشبه بشعراء الشباب في إنجلترا وفرنسا، لا أدعي أنهم جودوا مثلهم أو بلغوا مبلغهم، وإنما أؤكد أنهم على آثارهم، وأن التغيرات العالمية لم تتناول بلدا دون آخر؛ فإني كلما طالعت لشاعر من هؤلاء الشباب خطر في بالي أن أقارنه بنظيره في مصر، أو بالذي روحه من روحه، أو بمن كان على غراره.
صفحة غير معروفة