لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا
فصنها، وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى
وفارق، ولكن بالتي هي أحسن
ثم جلست وقالت: إنني أطرب من الشعر الذي يرسم للناس طريق السعادة، ويرشدهم إلى مكارم الأخلاق. ولعل الأدب سمي أدبا لأنه يهذب الروح ويؤدب النفس ويوجههما إلى اعتناق الآداب الفاضلة؛ ولهذا دعي الأديب أديبا. وأنا أعتقد أن الأديب الذي يعمل بأدبه كالعالم الذي يعمل بعلمه، والأديب الذي لا يعمل بأدبه كالعالم الذي لا يعمل بعلمه، فهو موهوب ولكنه مسلوب. •••
وكانت - رحمها الله - تتهم الجنس الخشن بإثارة المنازعات وقيام الحروب، وقالت لي مرة في أحد مجالسها: «إنني أنظر بعين الأسى إلى الأزمة العالمية الحاضرة، وعندي فكرة لإصلاح العالم لو تحققت لزالت الحروب.» ثم ابتسمت، وقالت: «هذه الفكرة هي أن تقوم في كل دولة «حكومة من الجنس اللطيف» تتألف من أرقى السيدات علما وأدبا وخبرة بالشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإنكم معشر الرجال جربتم كل أنظمة الحكم فلم تفلحوا، بل آثرتم المنازعات وأشقيتهم الشعوب بالحروب، على الرغم من أنكم أبدعتم في كل علم وفن، وبرعتم في عقد المعاهدات، وتدوين الشروط التي تقيد حرية الأمم، ونبغتم في إقامة الحصون وحشد الجيوش واختراع أسلحة القتال، ولكنكم فشلتم في الوصول إلى أحسن طريق للتفاهم. نعم فشلتم يا معشر الرجال، وجربتم النظام بعد الآخر فلم تجلبوا للأمم غير الشقاء، فهل تسمحون أن تجربوا الحكومات النسائية، فإنني أراها أقرب إلى تحقيق السلام، وأحرص على حقن الدماء.»
وقبل مرضها الأخير بقليل كنت أزورها ذات ليلة، فلمحت في وجهها شيئا من التفكير الحزين، وفي حديثها رنين الاكتئاب والجزع، ثم سألتني: «هل تعرف تفسير الأحلام؟» قلت: «ولماذا؟ هل رأيت حلما؟» قالت: «إني رأيت حلما مؤلما، وقد نهضت من نومي حزينة خائفة.» فقلت: «وما هو هذا الحلم؟» قالت: «رأيت ليلة أمس سيدة مقبلة علي ملتحفة بالسواد، فلم أتبين من هي، حتى إذا اقتربت مني صرخت قائلة: «أمي!» فبكت. ثم أقبلت نحوي تضمني إلى صدرها وتبكي، فبكيت لبكائها، وقلت: «ما لك يا أمي؟» فأجابت: «آه يا عزيزتي مي!» فقلت: «هل سأموت يا أمي؟» فلم تجبني، واستيقظت من نومي فازعة من هذه الرؤيا، فهي أول مرة أرى فيها والدتي بعد موتها، وقد شغلت بها حتى الآن بل تشاءمت، واعتقدت إما أني سأموت قريبا، أو أن يصيبني مرض شديد.»
قصت «مي» هذه الرؤيا، وتقاطرت الدموع من عينيها، ثم استجابت لما عرف عنها من شجاعة وتجمل، وقالت: «وهل عهدتني من الجبناء؟ إني لا أخاف الموت ولا أخشاه . إن وراء الموت وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وإني لأشعر باحتياج محرق إلى التعرف إليها والتمتع بها.»
صفحة غير معروفة