وبقيت بضعة أيام في مكاتب تلك البعثة أتظاهر بأني أشكو الصداع واضطراب الصحة بوجه عام، وأشرت في صباح يوم فراري إشارة عابرة إلى عدد قليل من الزملاء أن من الخير لي «أن أبقى في المنزل طلبا للراحة»، وأني قد لا أجيء إليهم في يوم الإثنين؛ وقصدي من هذا أن أعمل جاهدا على أن أكسب يوما قبل أن يكشف أمر غيابي.
وبعد أن قبضت مرتبي عن شهر مارس أصررت على أن أسوي مستندات نفقات رحلتي الأخيرة إلى بلدة لنكستر من أعمال بنسلفانيا ورحلتي السابقة إلى تشكاجو، وتبين لي أن نحو ثلاثين ريالا لا تزال باقية لي من ذلك الحساب، وكنت أبغي من هذا ألا أترك ما يبرر اتهامي بأن المخالفات المالية هي سبب فراري، وعمدت فضلا عن هذا إلى ترتيب أوراقي جميعها على خير وجه حتى يستطيع من يخلفني أن يبدأ العمل من حيث تركته.
وما من شك في أن بعض أعضاء البعثة من رجال ونساء قد عاد إلى أذهانهم بعد فراري وبعد أن نشرت أنباء هذا الفرار جرائد واشنجتن ونيويورك في صفحاتها الأولى، أن حالهم قبل أن أفارقهم كان يمتاز بشيء من الحماسة والحرارة، وأن ضغط يدي وأنا أسلم عليهم وأقول «مع السلامة» كان أكثر من المعتاد. وما من شك كذلك في أنهم أدركوا أني كنت أودعهم الوداع الأخير في صمت وسكون، ذلك أن أحدا منهم لن يجرؤ بعد الآن على لقائي حتى ولو كان هذا اللقاء هنا في أمريكا بلاد الحرية. لقد تقاربنا أنا وبعض هؤلاء المواطنين في خلال الأشهر التي قضيناها في العمل معا، وفهم كل منا صاحبه وإن لم يتحدث إليه كثيرا، ولو أنني استطعت أن أفارقهم علنا وأظهر لهم عواطفي على الطريقة الروسية، لخف عني دون ريب بعض العبء الذي ينوء به الآن كاهلي.
وكانت ليلة الفرار ليلة ليلاء، خفيت نجومها، وبدا لي أن محطة السكة الحديدية ملأى بالإنذار والوعيد، فماذا يكون من أمري لو أنني التقيت بزميل لي فنبه من يجب تنبيههم؟ وما من شك في أن حقيبتي الملابس اللتين كانتا معي، وهذه الرحلة التي لم يصرح لي بها، ستثيران الريبة في نفسه من فوره، وماذا يحدث إذا كان الرفيق سيروف أو القائد رودنكو قد عرف خططي، وكأن الأقدار أرادت أن تحقق هذه المخاوف، فوقعت عيناي فجأة على إنسان يلبس حلة من حلل الجيش الأحمر، وما كدت أراها حتى جمد الدم في عروقي من شدة الرعب، فجذبت قبعتي حتى غطيت بها عيني، وخبأت رأسي بطوق معطفي أكثر من ذي قبل، وتسللت بجوار الجدار وظهري متجه على الدوام نحو مواطني.
واتخذت مكاني في القطار في عربة من التي يركب فيها عامة الشعب؛ وذلك لأن موظفي السوفيت كانوا يسافرون على الدوام في عربات بلمان الفاخرة، وكان في هذا ما يقيني إلى حد ما خطر لقاء أحد ممن يعرفونني، وفي هذه العربة المعتمة المزدحمة الساكنة استسلمت وحدي لأفكاري.
وكنت أدرك من زمن طويل أن هذه الساعة الحاسمة آتية لا ريب فيها؛ لذلك هيأت أسباب فراري من عدة شهور، وأخذت أترقبه وأنظر إليه على أنه خلاص لي مما كانت تعانيه نفسي من ضلالات النفاق والغيظ والاضطراب التي ألحت عليها سنين طوالا، وقدرت أن هذا الفرار سيكون وسيلتي التي أكفر بها عن تلك الآثام المروعة التي ارتكبتها مع زملائي من الطبقة الحاكمة في بلادي، والتي يؤنبني عليها ضميري.
أما الآن وقد أصبح هذا الفرار حقيقة واقعة فلم يكن فيه شيء من الحبور أو الابتهاج الذي يصحب الحرية في أول عهد المرء بها، بل شعرت من حولي بفراغ مؤلم ترددت فيه أصداء المخاوف وتبكيت الضمير بأصوات عالية، خيل إلي معها أن الجنود والبحارة المغفين في العربة الملأى بالدخان قد سمعوها بلا ريب.
وقلت في نفسي: إنني أجتث حياتي من أصولها اجتثاثا لا يبقي على شيء منها، وقد يكون اجتثاثا أبديا، وإنني من تلك الليلة أجعل من نفسي إنسانا شريدا لا وطن يؤويه ولا أسرة تضمه ولا أصدقاء يركن إليهم، وإنني لن أرى بعد هذه الليلة وجوه الأقارب والأصدقاء، وأمسك بأيديهم أو أسمع أصواتهم، وهم الذين لحمهم من لحمي وعظامهم من عظامي، كأن هؤلاء جميعا قد فارقوا الحياة، ومن أجل هذا فارقني شيء في دخيلة نفسي عظيم القيمة لي، وأيقنت أن سأحس في حياتي أبد الدهر بذلك الفراغ، ذلك الفراغ الرهيب، وذلك الموت الزؤام.
أما موقفي من البلاد التي ولدت فيها فسيكون موقف الرجل الطريد المنبوذ من حكومتها، وسيصدر النظام السياسي الذي قضيت فيه حياة كلها كدح وولاء حكما علي من تلقاء نفسه بالإعدام، ولن يفتأ عماله السريون ينغصون علي حياتي ويقتفون أثري أينما كنت، ويتتبعون خطواتي، ويراقبونني من تحت نوافذ حجراتي، وسيقضون على حياتي إذا أمرهم سادتهم بالقضاء عليها. أما هؤلاء الأمريكيون الذين أرجو أن ألقي بينهم عصا التسيار فهل يكون في وسعهم أن يدركوا ما في انشقاق شيوعي روسي على الدكتاتورية الروسية من معان وأخطار؟ ألا ما أطيب قلوب هؤلاء الأمريكيين!
وفي بلادي نفسها سيكون أصدقائي وزملائي في العمل، بله الذين يحبونني ويعطفون علي، سيكون هؤلاء جميعا موضع الشبهات وغرضا للمثالب والاتهامات، وإذا شاءوا أن يظلوا أحياء من بعدي كان عليهم أن يمحوا ذكراي من صدورهم، وإذا أرادوا أن ينجوا بأنفسهم من العذاب فعليهم أن ينكروني ويتبرءوا مني، كما كنت أتظاهر في أيامي الخالية بأني أنكرت من جروا على أنفسهم انتقام الدولة السوفيتية وتبرأت منهم.
صفحة غير معروفة