ولم أكن في تلك الليلة الأولى أرى كلافديا بعيني وحواسي وحسب، بل كنت أراها أيضا بعيني زوجها وحواسه، وكان حبه لهذه السمراء النحيفة القوام حبا أكاد ألمسه في الحجرة لمسا، وكأن جمالها قد محا من الوجود تشويه جسمه فأصبح معافى سليما، وأحسست بقلبي يجذبه إليها سحر جمالها، كما أحسست بجو من الحزن لا أستطيع التعبير عنه يحيط بها، فسرى في نفسي شعور هو أقرب ما يكون إلى الجريمة أفسد علي استمتاعي بموسيقاها الشجية وحديثها العذب، فانتحلت بعض الأعذار وغادرت الدار مبكرا.
ومرت على هذه الزيارة أيام قليلة، وبينما كنت أسير في يوم يتساقط فيه الثلج خفيفا، إذ وقفت وجها لوجه أمام كلافديا.
وما أن رأتني حتى فاجأتني من غير أن تحييني: «لقد فررت منا في تلك الليلة، وسيكون جزاؤك أن تزورني في هذه، وسأعد هذا وعدا منك، وسأنتظر قدومك.»
ولم يخامرني شك في أني لن أذهب لزيارتها، ولكن مع ذلك وجدت نفسي أدق جرس بابها بعد بضع ساعات من لقائنا، وأشاهد المائدة في قاعة الطعام وقد أعدت لاثنين.
وشعرت فجأة بشيء من الارتباك، وبأني وقعت في شرك لم تنصبه لي كلافديا بل نصبته لي عواطفي، فسألتها وأنا على هذه الحال: «ولكن أين الدكتور سمرين؟» - «آه، لقد ذهب ليزور أخاه الذي يسكن في الريف غير بعيد من هذا المكان، ولن يعود إلينا إلا بعد بضعة أيام.»
وكان حديثنا على المائدة في أثناء العشاء حديثا مجهدا غير طبيعي، ثم شربنا خلاله زجاجة من النبيذ القفقاسي، وعرضت عليها بعد أن فرغنا من العشاء أن نتنزه في الحديقة، وكان ضياء القمر فيها أبيض ناصعا.
فضحكت وقالت: «لا يا سجيني العزيز، إذا كان لا بد لك من لوثة قمرية فها هي ذي «أنشودة ضوء القمر».» وأخذت تعزفها على البيان.
ثم أخذت بعدها تعزف وتغني أغنيات غجرية، كنت أذكر كثيرا منها منذ طفولتي في ألكسندروفسك، وحدثتها عن معسكرات الغجر وعن صداقتي لسيدمان، وكنت طوال الوقت جالسا على الكرسي الساند الذي كان زوجها يجلس عليه في أثناء الزيارة السابقة، وخيل إلي أن هذا الكرسي حصن لي يقيني من كل شيء، ثم أعلنت فجأة - وكاد يكون ذلك في منتصف جملة - أن لا بد لي من مبارحة الدار.
فنظرت إلي وعلى ثغرها ابتسامة حزينة وقالت: «أتريد الفرار مرة أخرى؟ لكنني لن أسمح لك به في هذه المرة.» - «أنا آسف، ولكن الدروس ... لقد وعدت أليوشا أن أذهب إليه.» - «إنك تكذب يا عزيزي فيتيا وأنا أعرف ذلك، فلنتحدث بصراحة: لم لا يكون من حقي أن أقضي سهرة مع إنسان، نعم مع إنسان أقرب إلى نفسي من غيره؟»
وكانت العبرات المكبوتة قد أخذت تخنق صوتها، فعدت إلى الجلوس، وشرعت تقص علي شيئا من تاريخ حياتها، فلما تحدثت به زال ما كان بيننا من تباعد، ولم أر فيها إلا فتاة بائسة يفيض لسانها بما ينطوي عليه قلبها من أسباب شقوتها.
صفحة غير معروفة