وكانت نتيجة هذه الحملات الصحفية أن أصبح لي كثيرون من الأعداء الأقوياء، دامت كراهية بعضهم لي كثيرا من السنين، ولكني كسبت أيضا كثيرا من الأصدقاء الأوفياء، وكان أخص ما لقيت فيه تأييدا قويا شكواي المتكررة من كثرة الموظفين في المصنع كثرة لا تتناسب مع إنتاجه؛ ذلك أني استخرجت من بعض الصحف الفنية إحصاءات تدل على أن مصانع صهر المعادن في السويد تستخدم موظفا إداريا واحدا، فيما نستخدم فيه نحن موظفين أو ثلاثة موظفين، وكان مما قلته: إن ذلك يحدث تضاربا في العمل، ويبطئ من سيره، ويزيد نفقات الإنتاج.
وكان الانتقاد الذاتي آخر ما بقي من الوسائل التي تعبر بها الطبقات الدنيا في الاتحاد السوفيتي عن قوتها، وكانت في حد ذاتها نوعا من الرأي العام، وقد أفلحت في كبح جماح الموظفين المحليين وحالت دون الشيء الكثير من مكرهم وغطرستهم، وإن لم يكن لها أثر في السياسة العليا ولا في القرارات التي تصدرها السلطة المركزية في موسكو.
ولما أقبلت على والدي لأعلن له أني أريد الانضمام إلى الحزب شعرت بشيء من الارتباك، وكان منشأ ارتباكي هذا أسبابا أحس بها، ولكن يصعب علي أن أوضحها لنفسي؛ لأن أصولها مستقرة في أعماق عقلي، حيث كانت ذكريات مثل الطفولة العليا تحيا حياتها الخاصة بها.
وقال لي أبي: «لقد كنت أعرف أنك ستنضم إلى الحزب في يوم من الأيام سواء أكان ذلك اليوم قريبا أم بعيدا، فقد كنت أراقبك عن كثب وأرى صلاتك بالنشاط السياسي تزداد يوما بعد يوم، فأنت تكتب في السياسة وتدرسها، ولكني لا أقول لك إن انضمامك هذا يسرني ويثلج صدري كثيرا، فأنت نفسك تعلم مقدار ما يحيط بنا من المظالم وما بين الطبقة الحاكمة والشعب من فروق تزداد على مدى الأيام ... وأحب أن أعرف كيف تنظر إلى هذه الأشياء؟ وماذا يدور في خلدك؟» - «إني ليسرني يا أبت أن تسألني هذا السؤال، وأحب أن أتحدث إليك حديثا صريحا، وأنا شاكر لك فضلك علي، فأنا مدين لك بالشيء الكثير، وأنا أجلك لشرفك ونزاهتك وما لك في الثورة من ماض مجيد، ولكني أرجو منك أن تفهمني على حقيقتي، فأنا أكاد أبلغ الرابعة والعشرين من عمري، وقد شببت وعملت مع رجال من ذوي الآراء الحديثة في محيط كل من فيه مخلص لهذه الآراء والخطط التي توضع لإنهاض البلاد في المستقبل، ولم أقفز إلى الحزب قفزة، بل إن إيماني بمبادئه نما في قلبي على مهل، حتى شعرت آخر الأمر كأني من رجال الحزب.
وأنا أعلم أن في الحزب نقائص وعيوبا وسعيا وراء المناصب، وأن فيه أقذارا ومظالم تكتنف الحياة اليومية العملية؛ ولست أحب هذه الأشياء أكثر مما تحبها أنت، ولكني أعدها مرحلة من المراحل ستنقضي حتما؛ ذلك أن تحويل قطر بدائي إلى دولة اشتراكية صناعية حديثة عمل ضخم يتطلب جهودا جبارة، ولا يمكن النهوض به من غير أخطاء، بل قل: من غير مظالم، ولكني لا أريد أن أتنحى عن هذا العمل وأكتفي بتوجيه النقد إليه، بل أريد أن أعمل مخلصا في داخل الحزب وأقاوم ما فيه من شر وأؤيد ما فيه من خير.
ولقد فكرت طويلا قبل أن أخطو هذه الخطوة، وليس ثمة سبيل يعرف بها هل يسير الحزب في الطريق السوي إلا سبيل التجربة ومر الزمن، ولكني أومن بغاياته وأريد أن أبذل ما أوتيت من جهد لتحقيق هذه الغايات، ومهما يكن من أمرك أنت يا والدي فإنك لا تعارض فيما نريده لبلادنا من نهضة في الصناعة، كما أنك لا تعارض في استبدال الجرارات بالخيول المنهوكة الخائرة القوى، ولا تعارض في السماح إلى العمال بأن ينضموا باختيارهم إلى المزارع الجماعية.»
ونظر إلي نظرة قاسية ولكنها خالية من الغضب وقال: «أنا يا فيتيا لا أعارض في هذه الأشياء بطبيعة الحال، وأنا أعلم الناس بشعورك نحوها، بل إني في واقع الأمر أتبين نفسي فيك، فقد كنت في شبابي أسلك هذا المسلك نفسه، كنت أطيع وحي ضميري ولا آبه بنفسي ولا بزوجتي ولا بأولادي؛ ذلك أن دينا أيا كان خير من لا دين، أتذكر قول لك
luk
في كتاب جوركي الأعماق الدنيا
Lower Depths : إذا اعتقدت بوجود الله فهو موجود، وإذا لم تعتقد بوجوده فهو غير موجود. ولقد وجدت أنت دينا تؤمن به وأنا أدعو لك من أعماق قلبي بالخير والتوفيق.
صفحة غير معروفة