وركب معي في القسم الذي كنت فيه من عربة القطار الذي أقلني من حوض الدنتز ستة مسافرين، ولم نلبث أن ثار الجدل بيننا كما هي عادة جميع الروس، وكنت أنا أصغر الجماعة سنا، ولكني شعرت بأن من واجبي أن أدير دفة الحديث؛ ذلك أني بوصفي عضوا في لجان شباب الحزب الشيوعي أرى فرضا علي أن أغتنم كل ما يتاح لي من الفرص لأنشر الدعوة إلى الحياة السعيدة المقبلة وأشرح أسباب المتاعب العاجلة وأهون من أمرها.
وقال واحد من الركاب وكان من رجال الفكر: «إنك أيها الرفيق لا تفتأ تتحدث عن حياتنا الحاضرة وكيف أصبحت خيرا مما كانت في الأيام الماضية، ولكني لا أرى فرقا بين هذه وتلك، فنحن كما كنا لا نجد الخبز ولا الكيروسين ولا الأحذية، وكثيرا ما أرتجف أنا وزوجتي من البرد الذي تتجمد منه أطرافنا، ونقضي نصف أيامنا بلا طعام، لعمري إن هذه ليست حياة، بل أخلق بها أن تسمى محنة ...»
وكان هذا الذي يحدثني رجلا كهلا نحيل الجسم رقيق الملامح، يلبس على عينيه منظارين سميكين في إطار ذهبي، ويرتدي معطفا من معاطف الربيع وإن كنا في غير الربيع، وحول رقبته لفاعة من الصوف مما تلتفع به النساء، وفي قدميه جوربان أبيضان يظهران من خروق حذاءيه.
وسأله راكب آخر قائلا: «معذرة يا سيدي، أي عمل تقوم به؟»
فأجابه بلهجة المتحفز: «أنا مؤلف موسيقي، أكتب المقطوعات الموسيقية.»
فقال الأول في سخرية لاذعة: «آه، إنك مؤلف موسيقي، ومن ذا الذي يحتاج إلى مقطوعاتك؟ من ذا الذي يطلب في هذه الأيام الأنغام التي يرقص عليها الناس في أيام البهجة والسرور؟ اذهب إلى المصنع يا صديقي واعمل فيه عملا حقا تقل أسباب شكواك.»
فصاح مؤلف الموسيقى في حماسة شديدة: «إذن ينبغي للناس كلهم أن يعملوا في المصانع! ألا يحتاج السادة الجدد الذين يقيمون صرح الاشتراكية إلى الموسيقى؟ أم هل يريدون أن نكون كلنا آلات بلا أرواح؟» - «نعم إنك على حق، فلسنا في حاجة إلى الألحان والنغمات الموسيقية الملعونة، بل الذي نحتاجه هو أن نزيد إنتاجنا من السلع.»
وقطع عليهم حديثهم رجل ثالث فقال محتدا: «إن الأرواح لم يبق لها وجود.»
فلما سمع المؤلف هذا صاح بأعلى صوته: «إذن لم يعد ثمة فائدة في مناقشتكم، فأنتم من الرعاع، ومن العبث أن أضيع وقتي في التحدث إليكم.»
واستعنت في هذه اللحظة بما يمليه علي مركزي في لجان الشبان الشيوعي لأنقذ الموقف، فقلت في جد ووقار: «اسمحوا لي أن أتحدث إليكم جميعا، إنكم تتجادلون متحمسين أكثر مما يجب أن تتحمسوا، ولكنكم لا تفهمون ما تتجادلون فيه حق الفهم، إذا لم يسؤكم مني هذا القول، لست أنكر أننا لا نزال تنقصنا أشياء كثيرة جدا، ولكننا نبذل كل جهودنا لسد هذا النقص، وسيكون لنا عما قريب كل ما نحتاج إليه بما في ذلك الموسيقى.
صفحة غير معروفة