واستيقظت من نومي بعد بضع ساعات كما أظن على أصوات مهتاجة وجلبة شديدة طردت الرقاد من عيني، فسمعت الممرضة تصرخ بصوت مختنق ونغمة هستيرية: «دعني أبها الوحش، وإلا أيقظت كل من في البيت! اخرج من هنا لساعتك!» وكان يتسرب إلى الحجرة من ضوء القمر ما يكفي لأن أتبين بحارنا مرتديا نصف ملابسه، وقد انقلبت سحنته من أثر هياجه، وهو يحاول أن يغتصب الممرضة، وكانت هي تقاومه بكل ما فيها من قوة، وقد انتفش شعرها، وتعرى ثدياها حيث مزق قميصها.
وما أن رآني البحار أجلس في فراشي حتى خلى سبيلها وخرج مسرعا من الحجرة وهو يسب ويلعن، وأغلق الباب من ورائه بدوي شديد، وسمعته يتمتم قائلا: «أيها المزارع القذر!» أما الممرضة فأخذت تبكي وتنتحب.
وقالت والعبرات تكاد تخنقها: «أولئك القوم، أولئك القوم الغلاظ، أولئك هم الذين تقوم على أكتافهم الثورة.»
وعرضت عليها وأنا مضطرب مثلها أن أدعو ليهومانوف وسائر من معه.
فأجابت بقولها: «لا، خير لنا ألا نضايق ليهومانوف، فحسبه ما هو فيه، إنه من خيار القوم، وهو رجل من ذوي المثل العليا حقا.»
ولم ننم في تلك الليلة بعد هذه الحادثة، بل ظللنا نتحدث - أو بعبارة أصح ظلت هي تتحدث وأنا أستمع إليها - حتى طلع الفجر، وكان مما قالته لي أنها ابنة أحد كبار الموظفين في حكومة القيصر، وأضافت إلى ذلك قولها: «ولما شبت الثورة احتضنتها وألقيت بنفسي في تيارها؛ لأني كنت طول حياتي أحب عامة الشعب وأتوق إلى مساعدتهم، ومن أجلهم قطعت صلتي بأسرتي، وذهبت إلى مدرسة الطب في خاركوف، أتلقى فيها دروسا في التمريض، وأنا الآن في جماعة التشيكا - الشرطة السرية - وأنا أبغض الشيء الكثير من فعالهم، ولكني أعمل في مداواة الجراح لا في التقتيل.
وينبغي لنا ألا نفقد الأمل أو نتخلى عن الكفاح منضمين إلى الآلاف من أشراف الناس أمثال ليهومانوف، وإن وجد بيننا أولئك الطعام والوحوش أمثال ذلك الرجل الذي هجم علي في هذه الليلة، وإنك لتجد في مقابل هذه الحادثة القذرة مائة من حوادث الشهامة والبطولة.»
ثم أسرت إلي بأن ذلك الرجل الذي هم بها لم يكن بحارا بحق، فهو قد عثر على حلة البحارة في مكان ما، ولبسها لأنها ترفع من شأنه في أعين الثوار.
ولما عدت أنا وجراشف على ظهري جوادينا إلى ضيعتنا في صباح ذلك اليوم حدثته بما وقع في أثناء الليل، وكان هو صانعا بسيطا لا يفهم إلا القليل مما يحدث في البلاد، ولكن أسبابا قوية أعادت إلى ذاكرتي في السنين التالية ما قاله لي وقتئذ: «نعم، يا فيتيا، لقد كانت تلك الممرضة على حق فيما قالته، إن في الثورة كما في كل شيء سواها ما هو خير وما هو شر، ولكن المسألة هي هذه: أي الطائفتين سيكون لها الغلبة حين تهدأ الثورة وتستقر الأمور، طائفة الأشراف أو طائفة الوحوش؟ أتكون الغلبة لأمثال ليهومانوف أم لأمثال البحار الزائف؟»
والآن ونحن نسير على مهل، كان في وسعنا أن نشاهد الجثث التي مررنا بها في مساء اليوم الماضي، وكنا نرى في بعض الأماكن تلالا من الأرض قد كومت حديثا، ودفن فيها الفلاحون أهل تلك الجهات بعض الموتى، وكان كثير من أجسام الموتى عاريا، وقل منهم من كانت في أرجلهم أحذية، فقد كانوا يجردون من ملابسهم ليكتسي بها الأحياء.
صفحة غير معروفة