ولما وصل القطار إلى إيكترنوسلاف وجدنا الأسرة كلها في انتظارنا، وكان استقبالنا مليئا بالقبلات والدموع والصياح؛ وقبل أن نصل إلى منزلنا زال ما كان بيني وبين أخوي من وحشة، فأخذنا كلنا نتحدث دفعة واحدة ونتحدث عن كل شيء، وظلت أمي طوال الوقت تحدق في وجهي وتردد قولها: «ما أحسن منظرك يا فيتيا! إنك رجل صغير بحق! صحة ونضارة!»
واستحال عشاء عيد الميلاد في تلك الليلة إلى صفحة من سجل أيام الطفولة لا تنمحي صورتها من ذاكرتي، ففي هذه الليلة علت شجرة عيد الميلاد حتى مست السقف وتلألأت كما تتلألأ المنارة الخضراء والذهبية في الكنيسة، وتكدس الطعام والشراب على المائدة، واشترك الأطفال في شرب الأنخاب فشربوها نبيذا حلوا من أقداح زجاجية صغيرة زاهية الألوان.
ورفعت جدتي لأمي - وهي أكبر أفراد الأسرة - القدح الأول وهي تقول: «الحمد لله الذي أنعم علينا بأن نلتقي هنا جميعا أحياء وأصحاء، وأتمنى لكم جميعا يا أبنائي الأعزاء خير ما تتمنونه لأنفسكم.»
ثم قام أبي، وكان كمألوف عادته وقورا بهي الطلعة، ورفع كأسه وقال: «أرجو أن نشرب نخب جميع الذين يجلسون في هذه الليلة بين جدران السجون، وأن ندعو الله أن يحقق ما آمل وما يأملون من حياة خير من هذه الحياة وأسعد منها!»
وهمست بابشكا قائلة: «إن هذا لا يكون في حضرة الأطفال يا أندراي، ولكنها مع ذلك شربت كما شرب غيرها من الحاضرين.»
وقضينا ساعات طوالا ونحن ملتفون حول شجرة عيد الميلاد، نغني الأغاني الشعبية الروسية والأوكرانية مصحوبة بأناشيد ثورية كنشيد المارسييز ونشيد: «لقد سقطتم صرعى أيها الضحايا»، وكان من الشواهد الدالة على ما أصبحت فيه الأسرة من رخاء، حاك جديد ذو بوق ضخم، وأخذ الأطفال يرقصون على نغماته العالية، وغلب النعاس يوجين في أثناء هذا المرح والشراب فأغفى بينما كان أبي يلقي قصيدة في الإشادة بالتضحية والمجد، وبينما كنت أنا الآخر أسخر من سني بوجين السبع وأفخر عليه بسني التسع أخذ الكرى بمعاقد أجفاني واستغرقت أنا أيضا في النوم.
وعدت بعدئذ إلى ألكسندروفسك وعشت فيها ثمانية عشر شهرا أخرى، حتى انقضى عام 1916م الدراسي، وهو الذي انتهى به منهج دراستي الأولية.
وكان إتمامي هذا المنهج حادثا مهما في حياتي، وإن كان الاحتفال به مملا والخطب التي ألقيت فيه ثقيلة، وكان أول مراسم الاحتفال في هذا اليوم العظيم هو حلق شعري بإذن من أسرتي، وأثار شعري الملتوي ما في الحلاق من ذوق فني فلم أقم من بين يديه إلا بعد أن ازين رأسي أجمل زينة كانت هي إيذانا بدخولي في مرحلة الرجولة، ثم أهدى إلي جدي حلة الطلبة الرسمية ذات السروال الطويل، وتحقق بها حلم طالما تمنيته، وكان يسرني أن أسير في الحادية عشرة من عمري وأن أكون موضع عناية الأسرة جميعها.
وكان فيودور بنتليفتش في حلته الرسمية تحلي صدره والأوسمة البراقة محط الأنظار في حفل التخرج الذي أقيم ظهر ذلك اليوم، فلقد وجهت إليه الأنظار أكثر مما وجهت إلى والد شتشيكتهين نفسه. وارتدت جدتي مئزرها الحريري الأسود الوحيد، وأخذت تخطر في هالة من عطر اللاوند والكافور. وشهدت الحفل عمتي شورا بطبيعة الحال كما شهده عمي متيا.
وكانت مفاجأة أخرى مثيرة تنتظرني في البيت في ذلك المساء؛ ذلك أن عمي بطرس شقيق والدي الأصغر عاد في تلك الليلة بإجازة رسمية من ميدان القتال على غير انتظار، وكان عمي هذا يختلف عن والدي أشد الاختلاف، فقد كان رجلا خلا قلبه من الهموم، محبا للحياة حريصا عليها، حلو الفكاهة كثير المزاح، ولم يحدث بينه وبين والدي شيء من ذلك الاحتكاك الذي أفسد العلاقة بين فيودور بنتليفتش وولده أندراي، وأحسست إحساسا غامضا يشوبه قليل من الغيرة أن بطرس هذا أحب الناس إلى أهل الدار.
صفحة غير معروفة