178

آثرت الحرية

تصانيف

ولقد جاء ذلك اليوم أسرع مما توقع أو توقعت.

الفصل الرابع عشر

التطهير الأعظم

انفض اجتماع اللجنة المحلية للحزب فاستقللت سيارتي إلى داري، مستصحبا صديقا حميما من رجال الإدارة في المصنع، وكان قد عاد من موسكو صباح ذلك اليوم نفسه حيث اتصل بكثير من الدوائر، فالأرجح أن قد عاد وفي جعبته أخبار، فقد أعلن عن قرب محاكمة من قبض عليهم وأعني «زينوفيف» و«كاما نيف» وغيرهما من البلاشفة الأقدمين، فأرهفت أذني، كما أرهف سائر الناس آذانهم، لأتسقط كل نبأ جديد، وهل يمكن للخيال أن يتصور رجال «أركان الحرب إبان الثورة» الذين كانوا تحت إمرة «لينين» في أعماق السجون؟! ألا ما أبشعها من فكرة وما أبعدها عن التصديق!

وإذا حكمت بما رأيته في عمال «نيقوبول» كان لي أن أقول: إن غمار الشعب لم يكترث كثيرا لمثل هذا الخلاف الذي دب بين السادة الجدد ؛ لأنه خلاف - في رأيهم - وقع بين أفراد أسرة واحدة وليس لهم أن يتدخلوا في أمره؛ ولهذا لم تتحرك قلوب الناس بعاطفة معينة إزاء ما أصاب زملاء «لينين» من فوادح.

أما أعضاء الحزب، والموظفون الذين لا ينتمون إلى الحزب، ورجال الصفوة الحاكمة بصفة عامة، فقد تحركت نفوسهم من أعماق أعماقها؛ ذلك أن «حراس لينين القدامى» لبثوا حتى ذلك العهد مصونة حياتهم من أيدي الفاتكين، فللناس أن يقللوا من شأنهم، أو أن يطرحوا بهم إلى مطارح النفي أو أن يكيلوا لهم أشنع التهم، أما حياتهم فكانت فوق متناول الأيدي العابثة، حتى «ليون تروتسكي» نفسه - بعد أن خبا نجمه - لم يصبه سوى أن أبعد إلى «ألما آتا» في وسط آسيا، ثم نفي إلى تركيا، أما الآن فرجل مثل «جورج زينوفيف» الذي كان يوما رئيسا ل «الشيوعية الدولية»، والذي كان خطاب منه (وربما كان الخطاب مزورا) كافيا لتحويل الاتجاه في الانتخابات في إنجلترا، مثل هذا الرجل هو الذي يحاكم الآن علنا بتهمة الخيانة العظمى! فليس من سبيل إلى الشك في أن هذه لم تكن بوادر عاصفة محلية فحسب، بل بداية إعصار سيجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة كلها والبلاد كلها، تاركا وراءه أثرا عميقا من الموت والخراب.

قال لي صاحبي في صوت خفيض خشية أن يسمعه السائق أمامنا: «فكتور! ألك عنق قوي؟» - «ماذا تعني؟» - «أعني أنه لن يمضي طويل زمن قبل أن تطاح رءوس كثيرة عن أجسادها.» - «لكن ماذا عسى أن يصيب رأسي؟ لست من المعارضين ولم أكن قط معارضا، بل إني لألزم عملي لا أتزحزح عنه ولا أتدخل في السياسة.» - «ألا بارك الله من كان في مثل إيمانك، عش وازدد علما.»

كان في ألفاظه رنين التهكم ، لكن لهجته كانت جادة على نحو تنفطر له القلوب. - «دعنا نسر بقية الطريق، فالليلة جميلة قمراء.» قلت ذلك لصاحبي غامزا إياه بمرفقي، فأخلينا سبيل السيارة؛ لأن الحديث لا يبلغ من الأمان ما يبلغه أثناء المشي، ما دامت البلاد قد ركبت لجدرانها آذانا تسمع وتسجل، وما دامت الكثرة الغالبة بين سائقي السيارات تعمل إلى جانب وظيفتها تلك عمل مخبرين للشرطة السرية.

سألت صاحبي: «ماذا هناك؟ حدثني لا تخف عني شيئا.» - «إن موسكو مقلوبة رأسا على عقب، ويقال: إن لننجراد ليست بخير منها، فالناس يقبض عليهم بالألوف، ولم يعد في الأمر إخفاء، فترى الشيوعيين ومن لا ينتمون إلى الحزب سواء بسواء، ينتزعون عن مكاتبهم انتزاعا على مرأى من كل إنسان. لقد قصدت إلى ستة أو نحو ذلك من قادة الحزب، وممن أقصد إليهم كلما ذهبت إلى موسكو، فلم أجد لهم أثرا، إذ اختفوا على نحو يكتنفه الغموض، فرجال القسم السياسي قد صعدوا إلى قمة السلم وأخذوا يطيحون برءوس القوم وأصحاب المناصب العليا ومديري الأعمال الصناعية والجماعية بل ببعض من يعملون داخل الكرملن نفسه.

إن كل إنسان تعلوه الكآبة ويجمد من الفزع، وكل إنسان تراه كأنما أصابه شلل، وتعتقد طائفة من الرفقاء أن «زينوفيف» و«كامانيف» سيقتلان وأن كثيرا غيرهما سيلحقون بهما. ليس من اليسير على عقل أن يصدق هذا الذي أقول، فليس له معنى يفهمه عاقل، لكنه الواقع! سيعاملوننا بمثل ما عاملوا به أصحاب الأراضي الزراعية والروس البيض.» - «من ذا يكون أول اللاحقين؟» - «لا علم لي بما لا تعلم، لكني أرجح ألا يفلت منا أحد، أعني أن كلا منا ستطويه سحابة الغموض، إن اثنين من مهندسينا - ذكر اسميهما - قبض عليهما ليلة أمس، وهذا مفروض فيه أنه سر مكتوم، إذ أمر المدير «براتشكو» أن يبعث بهما إلى موسكو في قطار معين، لكنهما لما بلغا من الطريق محطة «زبرزهي» نقلهما رجال القسم السياسي وقذفوا بهما في سيارة هناك، لقد شاءت المصادفة لصديق من أصدقائي أن يكون ساعتئذ في المحطة فيرى كل ذلك، إن الأمور ستجري بعد الآن جريا سريعا فافتح عينيك تشهد!»

صفحة غير معروفة