161

آثرت الحرية

تصانيف

وأشكر لك كل ما تفضلت علي به، أشكر لك أن عاونت في إحياء إنسان من البشر له شيء من كرامة النفس كان طغاة التعذيب قد محوها محوا، فلو بقيت حيا فسأدعو لك الله في غير انقطاع.»

فحفزني شعور دخيل أن أثق في هذا الهارب، وربما دعاني إلى الوثوق فيه قبل ذلك ما تكشف لي من صفحة نفسه في حديثنا العابر خلال الأسابيع الماضية، ولكن على الرغم من هذا الصوت الباطني الذي يطمئن نفسي، فقد أحسست كأنما كنت أقامر بحياتي كلها إذ أخذت في نقل الأسماء التي دونها لي في خطابه، ثم أحرقت الخطاب وأخفيت في حرص شديد كل أثر للرماد.

ولما دنا النهار من ختامه أرسلت رسولا إلى «جرومان» حيث يقيم، فجاءني الرسول في صبيحة اليوم التالي ينبئني أن الأسرة التي يساكنها «جرومان» قد قررت له أنه لم يذهب إليهم منذ يومين، فاتصلت فورا بقسم المستخدمين وسألت موظفيه في غضب مفتعل لماذا لا يبعثون إلي بأمين سر يكون أكثر جدارة بالركون إليه من ذلك الذي بعثوا به أول مرة، ثم قلت لهم متذمرا في غير إفاضة في الشرح: إن ذلك هو ثالث أيام غيابه عن عمله.

ولم تكتمل بعد ذلك ساعة واحدة حتى جاءني «جرشجورن» بنفسه مصحوبا برجل يرتدي حلة رسمية، وكان في حالة من الاضطراب الشديد ، وسألاني أسئلة، وقلبا كل ما يحتوي عليه مكتب «جرومان» ثم عادا، ولم يكن ثمة من سبيل أعلم به هل الهارب قد لاذ فعلا بالفرار، فالاحتمال ضئيل جدا أن يستطيع الهاربون التسلل خلسة عبر حدود السوفيت، ومع ذلك فمئات من الناس قد وفقوا في هذا العمل الجسيم.

ولقد أفادني ما علمته من أمر المخبرين المنبثين حولي، إذ استطعت أن أكون على حذر في شأن نفسي، وأن أعمل على حماية الآخرين، فلو أردت لشيء أن يبلغ مسامع الشرطة بغير إبطاء، فلا علي سوى أن أذكره ذكرا عابرا على مسمع من المخبر العامل في الأفران، أو المخبر العامل في قسم الآلات، أو رئيس قسم عمليات الصقل، أو المهندس «ماكاروف» أو رئيس العمال «يورافين» أو موظف نقابة العمال «إيفانوف» الذي كان مساعدا لرئيسه «ستاروستين»، وأصبح اتصالي ب «رومانوف» في أوقات الفراغ تكليفا أليما على نفسي أقوم به بين آونة وأخرى، إذ لم يكن في مستطاعي أن أجتنبه اجتنابا تاما دون أن أثير الشكوك.

وجاءت بعد «جرومان» خلفا له، فتاة شابة جميلة نشيطة كانت عضوا في الهيئة الشيوعية للشباب، ولا شك أنها استأنفت أعمال التجسس حيث تركها «جرومان» المنكود.

وكان اسم سائق سيارتي في القائمة التي تركها لي «جرومان» فكدت لا أدهش لذلك، وكان عليه أن يقرر عني ما يشاء رأسا لقسم المخابرات من المكتب السياسي، لا للقسم الاقتصادي الذي يشرف عليه «جرشجورن»، أما خادمتي «باشا» فلم يكن اسمها في القائمة.

لكني عرفت فيما بعد أن حذف اسمها من القائمة كان سهوا من «جرومان» أو أن «جرومان» لم يكن له علم بنصيبها من التجسس.

وعدت ذات يوم بعد زيارة لموسكو، وكانت «باشا» قد أمضت في خدمتي ما يقرب من سنة كاملة، فساعدتني في تفريغ حقيبتي، وكنت قد اشتريت لها عددا من الهدايا، اشتريت لها لفاعة زاهية الألوان، وبضعة أزواج من الجوارب القطنية، وكوثا منزليا، فخيل إلي أنها أخذت هذه الأشياء في تحفظ غريب.

فسألتها: «ألا تعجبك هذه الأشياء يا «باشا»؟» - «نعم، تعجبني يا فكتور أندريفتش ، وإني لجد شاكرة.»

صفحة غير معروفة