146

آثرت الحرية

تصانيف

كان ما أعطانيه قائمة بأسئلة تملأ عشر صفحات لم تدع شيئا عن حياتي وآرائي وعن حياة أقربائي وأصدقائي وآرائهم إلا سئلت عنه، جلست أجيب عن أسئلتها فترة طويلة ثم وقعتها بعد أن فرغت منها، ففحصها مساعد رئيس الشرطة السرية الرفيق «ت» وكتب على هامشها بعض ملاحظات ثم حفظها في خزانته وارتدي معطفا وقبعة مدنيين وغادرنا مكتب الإدارة معا.

وركبنا سيارة بلغت بنا موضعا يبعد عن «فندق السائحين» بضع عمارات، حيث نزلنا.

قال: «سأسبقك مفردا، وعليك أن تتبعيني بعد ثلاث دقائق لا تقل ولا تزيد، واصعدي إلى الطابق الخامس من الفندق «وذكر لي رقم الغرفة» سأكون هناك في انتظارك ولا تظهري هكذا بمظهر المأخوذ، فأنا الآن ضابط من الشرطة السرية لا إنسان من الناس فلا حاجة بك إلى الجزع.»

وبعد دقائق كنا معا في الغرفة المعينة، ولما طرق الباب خادم الفندق بما جاء به من طعام ونبيذ، اختفيت في غرفة مجاورة فهنأني رئيسي بعد أن عاد الخادم: «ما أذكاك من فتاة! لكن الفطنة ها هنا ليست بذات نفع كبير؛ لأن كل من يعمل في فنادق السائحين من مدير الفندق فنازلا إلى الخادمة التي تمسح الأرض من أعوان الشرطة السرية.»

وإذ كنا نتناول العشاء، أخذ يرشدني بتعليماته الأولى، ويلقي علي درسا سريعا في أساليب الشرطة السرية.

وقال يشرح موقفه إزائي: «يؤسفني أن أقول: إنك لن تعملي معي في الوقت الحاضر، لكن سيأتي يوم - بعد عودتك إلى خاركوف - يتاح فيه لنا معا أن نفعل الأعاجيب.» - «إلى أين أنا ذاهبة أول الأمر؟» - «ستمكثين في خاركوف بضعة أشهر، إذ لا مندوحة لك عن تعلم شيء كثير، ثم سنبعث بك إلى «دنيبروبتروفسك» وهو بلد جميل، يجتمع فيه كثير من الأجانب بسبب الخزان الكبير هناك وبناء المصانع وغير ذلك من الأعمال القائمة، وستجدين بين هؤلاء الأجانب مهندسين من أمريكا وإخصائيين من ألمانيا، فواجبنا هنالك كبير، وأحب أن تعلمي أنني أوصيت بك بنفسي، فأصبحت بهذا مسئولا عنك، فلو انحرفت عن جادة الصواب بشيء من الألاعيب وقع اللوم على عاتقي، وربما ظننت أنك في قبضة يدي، لكن حقيقة الأمر على عكس ذلك يا عزيزتي، فأنا الآن تحت سلطانك، وسنغفر لك كل زلة تصدرين فيها عن طوية سليمة، أما إذا حاولت خداعنا أو حاولت «الانحراف إلى اليسار» - كما يقولون - كان الله في عونك حينئذ، نعم أنا الآن تحت سلطانك، وذلك هو ما جعلني أوثر الآن أن أتحدث إليك على هذا النحو الودي الصريح.»

قلت: «ها أنا ذا أصغي إليك.» - «أول ما أسديه إليك من نصح يا «إلينا بتروفنا» هو أن تدربي ذاكرتك وخصوصا فيما يختص بالوجوه، لا تكتبي شيئا، بل أمسكي كل شيء على صفحة الذهن بحيث لا يفلت، وذلك شيء يستفاد بالتدريب، فالأوراق والمذكرات لها خطورتها، فاحفظي عن ظهر قلب ما تحسين الحاجة إليه: الأسماء والعنوانات وأرقام التليفون والوقائع، إن أداتك الأولى هي الذاكرة.

ولغاتك الأجنبية استخدميها، فهي كذلك أدوات نافعة، وكذلك جمالك، فأنت من أشد النساء اللائي يخدمننا فتنة، وجانب من مهمتك الرسمية أن تحتفظي لنفسك بهذه الفتنة، فلا تقتري على نفسك في شراء الثياب ومساحيق الزينة، فهذه ألوان من الإنفاق لها من الأسباب ما يبررها.

وسيحدث لك أن تلتقي حينا بعد حين بسواك ممن يعمل في خدمتنا، فلا تثقي بأي منهم ولا تنبسي ببنت شفة مما قد يدل على طبيعة مهمتك مهما يكن ذلك على سبيل السياق العابر، وإذا دعت الحال أن تعملي مع غيرك من أعضاء الشرطة السرية في إنجاز مهمة واحدة اتبعي الأوامر فيما يخص الجانب الذي عهد إليك به، مهما بدا لك أنها أوامر سخيفة، فليست التبعة الملقاة عليك إلا هذا.

ونصيحة أخرى يا عزيزتي لها قيمتها، لا تقبلي قط شرابا إلا إذا صب في حضرتك وإلا إذا شرب منه المضيف أولا، ولا ترتبطي بصلات الصداقة مع أي رجل في خدمة الشرطة السرية إلا إذا وافق رئيسك موافقة صريحة على هذه الصلات، وبلغي أول الأمر عن كل صلة تنشأ بينك وبين كائن من كان، مهما بدت لك هذه الصلة تافهة وعابرة، وسيكون لك الحق في الانتفاع بالدكاكين الخاصة بنا وفي قسائم تبيح لك من الطعام والثياب قدرا أكثر مما يصيب سائر أبناء الوطن، فالقائمون على حراسة الوطن حتى يكون بمنجاة من العدوان لا ينبغي أن ينقصهم شيء، والآن فأنت واحدة منا.»

صفحة غير معروفة