فضحك وقال: «ذلك تبسيط للصورة فيه إسراف.» - «إذن فيؤسفني ألا أستطيع القيام بما تطلبون.» - «لا تتسرعي في اتخاذ هذا القرار يا «إلينا بتروفنا» فليس بنا حاجة إلى سرعة، فلديك من المهلة ما تشائين لتفكري في الأمر مليا ثم تعودين، وإلى أن تعودي إلينا بقرار، فلا ينبغي أن يعلم أحد عن هذه المقابلة شيئا مهما يكن صغيرا، وإلا حبسنا العصفور الصغير في قفص قد يلبث فيه أمدا طويلا بالغا في الطول، من فضلك وقعي على هذه الورقة.»
وكان ما وقعته استمارة يتعهد فيها صاحب التوقيع ألا يخبر أحدا بما دار من حديث، وينص فيها على عقوبة مخيفة لو خالف ما تعهد به.
مضى الزمن في حزن عميق يا «فيتيا»، فها هي ذي فرصة قد أتيحت لي لأشتري حرية أبي بثمن هو أن أكون أداة للشرطة السرية، فكاد يغلبني إحساس بإجرام إذا ما تركته يعاني في سجنه، ولو أنه من حسن حظي أنني كنت أعلم عنه أنه لو عرف موقفي لكان آخر إنسان في الدنيا يتوجه إلي بلائمة، لكني عانيت روحا وبدنا، ثم دعيت مرة أخرى إلى مكتب رئيس الشرطة السياسية، فلم أجد فيه هذه المرة ظرفا في الترحيب، كلا ولا قدم لي هذه المرة حلوى أو سجائر.
دخلت فتشاغل بالنظر إلى أوراق وتظاهر بعدم رؤيتي، وبينا أنا واقفة هناك وقفة الحائر سمعت صرخات مفزعة في مكان ما من البهو، فصرخت من خوف صرخة لم تكن لي إرادة فيها، فرفع بصره إلي.
قال: «أهو أنت هنا ثانية؟ أيزعجك هذا الضجيج الذي تضيق له النفس؟ أنت في ذلك على حق، شخص يحفزونه بذلك على تذكر ما قد نسيه ... نعم إن مهمتنا مهمة شاقة، تتطلب أعصابا من الصلب، والآن هل تقبلين ما عرضته عليك؟» - «لا، لا أقبله، ليس في وسعي أن أقبله.» - «أذلك قرار حاسم منك؟» - «نعم، إنه قرار حاسم.» - «إذن فأنا آسف من أجلك ومن أجل أبيك، ولا زلت أرى أنك قد تغيرين من رأيك، نهارك سعيد.»
ثم تشاغل من جديد بتلك الأوراق، وتركته وانصرفت.
وفي مساء ذلك اليوم، حين جاء دوري فسلمت حزمة الطعام لأبي في قفص قريب من بوابة السجن، أعاد الموظف المسئول اسم أبي بعد أن ذكرته له: «لادينين؟ لا، ليس في وسعي قبول حزمتك.» فوقفت إزاءه جامدة من الهلع.
صحت له: «ماذا جرى؟ إنه أبي، هل مات أبي؟ هل أرسلوه إلى طرح بعيد؟» - «لا علم لي بشيء، عني! من بعدها!» - «لكنه رجل كهل، إنه بريء، ولا بد أن أعلم ماذا أصابه.» - «عني وإلا أبعدتك بالقوة، إنك سبب في تعطيل الصف كله.»
ذهبت إلى نافذة أخرى كتب عليها «استعلامات» فقلت للحارس: إني أريد أن أعلم ماذا أصاب أبي، وأعطيته الاسم، فأقفل النافذة ورأيته يتحدث بالمسرة، فأرهفت أذني لأسمع، لكني لم أسمع إلا لفظة واحدة هي «مستشفى» ففتح النافذة وقال: «آسف لا نبأ عنه.»
درت لآخذ سمتي نحو الدار مع أني أوشكت أن أعجز عن تحريك قدمي، وأعطيت حزمة الطعام لسائل حتى لا أزعج أمي، ثم حاولت في اليوم التالي أن أقابل طبيبا يعمل في مستشفى السجن يحدوني أمل غامض أني ربما سمعت عن أبي خبرا، وبدأت بحثي بعدة أطباء كانوا أصدقاء أسرتنا، فكان كل منهم يحيلني على آخر، فلما مضت علي في هذا البحث ساعات أعطاني شخص اسم طبيب له - فيما ظن - علاقة بالسجن في «كيف».
صفحة غير معروفة