وبنية الأمة التي تروج فيها الصحافة هي المسئولة عن شرورها، وهي المطالبة بخلق الترياق الذي يدرأ سمومها ويحتفظ بغذائها الصالح السليم.
والذي تبين من تجارب الأمم الغربية أنها أخذت تقسم الصحف عندها إلى قسمين تتسع الفجوة بينهما عاما بعد عام، وهما: قسم التسلية، وقسم المراجعة والدراسة. ومن المشاهد المتواتر في أوروبا وأمريكا أن صحف التسلية تطبع الملايين في اليوم الواحد، ولكنها لا تؤخذ مأخذ الجد والتوقير، ولا يحفل الناس ماذا تقول وماذا تبدي من الآراء، وأن صحف المراجعة والدراسة محدودة القراء، أو محدودة النطاق في الأقاليم، ولكنها مرجع معول عليه في تكوين الأفكار وتلقي المعلومات.
إلا أن الصحيفة المسلية قد تقنع قراءها بالتأثير «الآلي»، ولا تهتم بالتأثير «الأدبي» إذا ضمنت الرواج.
ومعنى ذلك أن الخبر الذي يتلقاه ثلاثة ملايين من القراء، وتتوخى الصحيفة وقته المناسب، وصيغته الشائقة، وهدفه المقصود، لن يخلو من أثر يصيب المصالح العامة، ويشيع القلق في النفوس، ويصبغ السياسة الحسنة بما يشوهها، كما يصبغ السياسة الشائهة بما يزخرفها ويحببها إلى الأنظار، ولا مبالاة في هذه الحالة بمكانة الصحيفة وكتابها في قلوب القراء؛ لأن الأثر «الآلي» يسلك سبيله إلى ملايين القراء بمعزل عن الأثر الأدبي الذي يستقبلونه بالحذر أو الإعراض إذا صيغ لهم في قالب النصيحة والتوجيه.
ولا نعلم اليوم كيف يحل الغرب والشرق مشكلة الصحافة في الجيل القادم، ولكننا نستطيع أن نعلم ماذا يكون إذا سارت الأمور على استقامة وصلاح، وماذا يكون إذا سارت على نقيض الاستقامة والصلاح.
فإذا بقى التأثير الآلي مقرونا بالرواج والقوة؛ فهو خطر وبيل العواقب قد يربي على جميع ما ابتلاه الناس من أخطار الدعاية في أطوار التاريخ.
وإذا خيف من الشر أن يبلغ مداه فقد تعتصم منه الإنسانية بالترياق الوحيد الذي يجدي عليها في هذه الحالة، وهو إسقاط «الدعاية الآلية» من كل حساب، والفصل بين صحافة التسلية وصحافة الرأي بفاصل منيع لا يأذن لجانب الخطر أن يطغى على جانب الأمان. وقد يكون في ذلك باب للخير الشامل يوفض منه بنو الإنسان إلى عالم جديد؛ لأنهم يعرضون عن «الآلية» بعد استنفادها والانتهاء بها إلى غايتها القصوى، ولا يقيمون وزنا لغير رسالة الروح إلى الروح، وتوجيه الفكر للفكر، وعقيدة الإنسان في إمامة الإنسان.
إجمال
غني عن القول أن البلاد الشرقية تلقت دروسا كثيرة في العلوم والصناعة التي تسمى أحيانا بعلوم أوروبا وصناعاتها، إما في مدارس أوروبا نفسها، وإما في المدارس الشرقية التي أنشئت على غرارها.
وهذه حقيقة واقعة غنية عن الإفاضة في شرحها، مفهومة بطبيعتها، ولأن المهم عندنا في تسجيل آثار الحضارة الأوروبية في الشرق هو الآثار النفسية التي كان لها مساس بروح الشرق وضمائر أبنائه، ولسنا ممن يرون أن العلوم والصناعات المنقولة كان لها في ذاتها ذلك الأثر، إلا من طريق الخطأ في فهمها واستخلاص مراميها؛ لأنها تدخل في حيز المنقولات العقلية والمنقولات الآلية التي لا تستتبع بعدها انقلابا خطيرا في عالم الروح وسرائر الوجدان.
صفحة غير معروفة