وكانت الصحافة مما نقله الشرق العربي عن الغرب، فساعدته على سهولة الكتابة، وشيوع الكلمات الفصيحة، وتعدد أغراض القول، وكانت العلوم الحديثة والكتب المترجمة من الموارد الفكرية التي وسعت مسارح التأليف والتصنيف، وأنشأت طوائف شتى من الأدباء في مذاهب الوصف، ودراسة الأطوار النفسية، وقصص الواقع والتاريخ. «والقصد» هو الفائدة التي تتلخص فيها النهضة الشعرية كما كان هو الفائدة التي تتلخص فيها نهضة النثر بأنواعه، بعد احتكاك الشرق العربي بالحضارة الأوروبية.
فكان الشاعر يقول ما تعود الناس أن يقال لهم في كل مناسبة من المناسبات لا ما يريد هو أن يقول، وكان على هذا قلما يحسن المحاكاة أو يتجاوز محاكاة الببغاء لما يقع في سمعها من الجمل الجوفاء.
فنشأ الشعر المقصود، وبرزت ملامح «الفرد» المستقل في دواوين الشعراء، وقلت القوالب المطروقة بمقدار ما كثرت المعاني المطبوعة، والأغراض المبتكرة، وضاقت الأوزان القديمة بهذه الأغراض، فنجمت الدعوة إلى القافية المرسلة، والأوزان الحرة، وتوسع الشعراء في أوزان الموشحات القديمة، فأضافوا إليها كثيرا من المجزوءات والأوضاع الحديثة.
ومن المقابلة بين ديوان قديم وديوان جديد يتبين التغيير العصري الذي تجاوز الصيغ والألفاظ إلى الأغراض والموضوعات.
فلم تكن للديوان القديم سمة يتميز بها بين الدواوين غير نسبته إلى ناظمه بالاسم أو باللقب أو بالكنية؛ كديوان جرير، أو ديوان البحتري، أو ديوان أبي تمام، ولم يكن للقصائد أغراض غير الأبواب المعهودة في المدح والفخر، والوصف والغزل، والحكمة والرثاء والهجاء، ولم يكن للقصيدة عنوان يميزها بين قصائد الديوان الأخرى.
فبرزت «الملامح» المعنوية في الدواوين الحديثة، وأصبح للديوان اسم يشير إلى فحواه، وللقصيدة اسم ينم على موضوعها، وللنظم أغراض في الرواية والمشاهدات النفسية أو الاجتماعية، والرموز الفلسفية أو الفنية، واعتمد الشعراء على القراء وما يحسونه ويتوقون إلى النظم فيه، وكان معتمدهم قبل ذلك على الممدوحين وأصحاب الهبات.
وتفاوتت الأقطار العربية في مدى التجديد على حسب تفاوتها في أسباب المحافظة على القديم، وأقوى هذه الأسباب هو الاقتراب من المناسك، أو مواطن البداوة، أو جامعات العلم التاريخية، فهي تمنع التجديد أن ينطلق بغير كابح يشتد أو يلين. •••
وراجت الفنون الجميلة في الشرق العربي على قدر نصيب الفن من الطبيعة الاجتماعية، فسبق التمثيل، ولحق به الغناء ثم التصوير، وكان أروج الفنون ما يجمع بين الرؤية والسماع والفكاهة في وقت واحد، كالعرض (الريفيو أو الاسكتش)، والحوار، والديالوج، والألقية (المونولوج)؛ لأنها تجمع في المحافل بين التمثيل والموسيقى والرقص في بعض الأحوال، ولهذا لا تزال صبغة التسلية أوضح وأروع من صيغة الفن المحض الذي يراد لمعناه الرفيع . •••
ومن المفارقات الصادقة أن الاقتباس من أوروبا عاق فن التمثيل عن بلوغ شوطه في التقديم والأصالة؛ لأن أصحاب المسارح استطاعوا تسلية الجماهير بنقل المناظر التمثيلية التي تقوم على المفاجآت والألاعيب المسرحية، ولا ترجع إلى طبيعة البيئة لتستلهم منها موضوعاتها ونماذجها الشخصية، ولم تزل آفة التسلية في جميع معارضها أن توكل الفن بالذوق الشائع المبتذل، وليس هو على الجملة بأفضل الأذواق.
ثم ابتلي التمثيل بمزاحمة الصور المتحركة؛ فأصبح من الميسور أن يعمل في التمثيل السينمائي من لا يحسنون الفن، ولا يتكلفون جهدا من الجهود الثقافية؛ لأن التمثيل السينمائي يجري في عزلة عن النظارة، ويستطاع تحضير أدواره قطعة قطعة في أوقات متفرقة، كما يستطاع تصحيح أخطائه كلما وقع الممثلون والممثلات في خطأ منها؛ فبطلت الحاجة إلى الإتقان ودراسة الثقافة الفنية، وتيسر الربح الجزيل مع الخبرة الناقصة والجهد اليسير؛ فأصيب الفن الصحيح بحبسة في النمو يحاول الخلاص منها، ولم تسفر هذه المحاولات بعد عن مصيرها.
صفحة غير معروفة