أثر الملل والنحل القديمة في بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام
الناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
رقم الإصدار
السنة السادسة والثلاثون
سنة النشر
العدد الخامس والعشرون بعد المائه ١٤٢٤هـ/٢٠٠٤م
تصانيف
الوقفة الرابعة: من خلال مقارنة موقفهم من الزهد:
عرَّف الإمام ابن الجوزي (ت ٥٩٧هـ) الزهد بأنَّه: “عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه. وشرط المرغوب عنه: أن يكون مرغوبًا فيه بوجهٍ من الوجوه؛ فمن رغب عن شيء ليس مرغوبًا فيه، ولا مطلوبًا في نفسه لم يُسمّ زاهدًا؛ كمن ترك التراب لا يُسمَّى زاهدًا ... ليس الزهد ترك المال، وبذله على سبيل السخاء والقوَّة واستمالة القلوب، وإنَّما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة”١.
وليس المراد بترك الدنيا: تخليتها من اليد، ولا إنفاق جميع المال، وسؤال النَّاس بعد ذلك، وإنَّما المراد إخراجها من القلب بالكليَّة؛ بحيث لا يلتفت إليها، ولا يدعها تُساكن قلبه وإن كانت في يده.
فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنَّما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك؛ كحال الخلفاء الراشدين (، وغيرهم٢.
وقد انحرف الصوفيَّة في مفهوم الزهد انحرافًا خطيرًا؛ فصرَّحوا أنَّ الزهد هو الابتعاد عن الدنيا بالكليَّة، وعدم الاهتمام بها.
ولم يكتفوا بذلك، بل دعوا النَّاس إلى تعذيب أنفسهم بالجوع، والعري، وبكلّ الشدائد. ومدحوا الفقر، ودعوا إليه، وقدَّموا سؤال النَّاس على العمل، والاشتغال بالرزق الحلال.
بل زادوا على ذلك انحرافًا آخر، حين زعموا أنَّ درجة الولاية لله لا يُمكن أن تُنال، أو يصل العبد إليها، إلاَّ إذا قام بهذه الطقوس المبتدعة، التي تدعو إلى
_________
١ نقل عنه هذا التعريف: المقدسي في مختصر منهاج القاصدين ص ٣٢٤.
٢ انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزيَّة ص ٢٥٢.
1 / 75