فصاحت السلطانة مذعورة: ميتة ...! إلى أين قدتني يا علي؟! تعال نخرج سريعا فقد أخافني هذا الموت. أما الخصي فكان كالغراب الذي لا يلذ له إلا نهش لحوم الأموات، فأخذ يدير ألحاظه بين الحاضرين حتى وقع على أحمد فعرفه، فتقدم إليه غاضبا وأمسكه بعنقه، وتقدم به إلى السلطانة قائلا: هذا هو أحمد الخائن قد شاب شعره منذ ست عشرة سنة، ولكن لم يزل على خبثه، وأحمد الذي تعرف سكون جأشه في الملمات ضاع هداه في تلك الساعة أمام السلطانة، وموت فاطمة، وذلك المشهد الرهيب، فقالت السلطانة: نعم هو هو بعينه قد عرفته الآن، وهو الذي ساعد سيده على خيانتي، ثم سألته: أين بنت محمد باشا؟ وماذا فعلت بها ...؟
فأجاب دون أن يرفع رأسه: قد ماتت.
فصاحت السلطانة: كيف ماتت وهي في زهرة شبابها، ومقتبل عمرها، وخطيبة صلاح الدين؟ - نعم ماتت، ولا أعرف كيف.
أما النساء الحاضرات فلم يفهمن شيئا من هذا الحديث، وكان علي يحدق بنظره إلينا ليعرف أين عائشة؛ لأنه لم يرها إلا مرة، وكان نقابها كثيفا، فلم يعرفها، وكدنا نخلص من ذلك المركز الحرج. وقد أملت أن كذبة أحمد تنجينا، ولكن لا نصير إذا لم ينصر القدر.
فإنه لما يئس من الحصول على نتيجة من أحمد تضايقت السلطانة وهمت بالخروج، ولكن لم تصل الباب حتى كان السلطان قد أنفذ رجلا خرب جميع ما بنيناه من الآمال. فصاح الخصي: أهلا وسهلا بحسن بك، تعال وانظر ما حصد الموت.
فانحنى حسن تسليما للسلطانة، ثم قال: نعم، عرفت الساعة بوفاة فاطمة هانم، فهرولت مقدما خدماتي إلى عائشة هانم التي خان خطيبها عهدها.
فصاح صلاح الدين: يا للخيانة! فقالت له والدته: مهلا يا ولداه، اسكت ريثما تعرف النتيجة، فلما رأيت وعائشة حسن بك عرفنا سوء المصير، ونظر إلينا أحمد نظر الأسيف البائس، ووقفت السلطانة تنظر ماذا يكون؟ فقال علي: إذن كذب هذا الخائن بقوله إن عائشة قد ماتت، فأجاب حسن: لا وألف لا، فقد أكد لي بعض الجواسيس أنهم شاهدوها بالأمس في هذا المكان، وهي لا تزال حية ترزق. فتقدم الخصي إلى أحمد ولكمه بجمع يده قائلا: أما ترى كذلك أيها الخائن الماكر؟ فأجاب أحمد: لم أقل إلا الحق ... فأجابه حسن بحنق: كذبت وخسئت أين أخفيت عائشة، قل أين هي الآن وإلا قتلتك في الحال، وألقيتك في السجن حيث تلاقي من أنواع العذاب أشكالا وألوانا، فأجابه أحمد: افعل ما تشاء، فلا أعرف أين هي. فضحك حسن وقال: إني في غنى عنك، ثم تقدم إلى الباب ونادى امرأة فاقتربت وإذا بها سنية خادمتنا التي طردتها منذ مدة، فقال لها: تعالي وأخبريني من هي مولاتك ومن هي عائشة. فلما سمعت النساء الحاضرات هذا الكلام استولى عليهن الرعب؛ فانذعرن وانفلتن من كل جهة، فحاولت الفرار وأمسكت بذراع عائشة لتتبعني. وإذا بالخادمة تقدمت إلينا وقالت مشيرة إلي هذه نعمت هانم وهذه عائشة وراءها. وللحال تقدم حسن إلى الباب ومنعنا من الخروج، فصعد الدم إلى رأسي، وكدت أتميز من الغيظ، فصحت بصديقك: ابتعد يا خائن، بأي حق تمنعني عن الخروج؟ فأجاب متظاهرا بالاحتشام: لا أريد هانم أفندي منعك بل منع الهانم التي معك.
فقلت: هذه ابنتي وخطيبة ابني صلاح الدين بك وهي في حماي.
والويل لمن يمسها، فأجابني الخصي: سهي عن بالك هانم أفندي أن سمو السلطانة مشرفة هذا المكان، وأن عائشة هي ابنة إحدى جواريها ومن صلب زوجها محمد باشا، فهي إذن تخصها. فقلت: ولكن ستصير زوجة لابني، فقاطعني حسن الكلام ساخرا ستصير ولكن لم تصر بعد، فمتى عاد صلاح الدين بالسلامة يمكنك طلبها من سموها إذا سمحت بها.
فقالت عائشة حيئنذ: لا أريد الذهاب مع هذه السلطانة، فقد خضبت يديها بدم والدتي.
صفحة غير معروفة