أما نعيم فلما كان يدرس في فينا عاصمة النمسا علق فتاة نمساوية تدعى جوزفين، وأخلص لها الحب فعلقته وأولعا أحدهما بالآخر، وأخيرا عاهدها على أن يتزوجها، فصحبته في عودته إلى مصر بعد إذ انتهى من الدراسة، ولكن أباه أنكر عليه الزواج الشرعي بها؛ لأنها أجنبية الجنس والدين ووضيعة الحسب. أما نعيم فلم يكن ليعتبر هذه الأسباب كافية لمنع زواجه بجوزفين؛ لأنه وجد فيها كل أمانيه بالزوجة، وجد أنها على غاية من الأدب والذكاء واللطف والجمال والصحة فضلا عن المعرفة وطيب السريرة، ولم يكن نعيم ممن يحسبون الحسب ونحوه شيئا تلقاء هذه الفضائل، ولا كان ممن يتعصبون للدين ولا للجنسية، ولا سيما لأن دينه لا يحرم عليه الزواج من امرأة غريبة عنه جنسا ودينا؛ ولهذا صمم أن يثبت في حب جوزفين، وبما أنه كان يستنكر أن يغيظ أباه أو يعصيه بأمر، ولو كان الأمر مخالفا للصواب - ولا سيما لأن أباه في آخر أيامه - عقد عقد زواجه بجوزفين سرا على نية أن يعلنه بعد وفاة أبيه، وإنما فعل ذلك قبل وفاة أبيه؛ لكي يفي بوعده لجوزفين.
وفي ذلك العام الذي تزوج فيه رحل رحلة صيفية إلى أوروبا، وترك جوزفين حاملا، وقبل أن يعود نعي إليه أبوه وأبلغ خبر إجهاض زوجته، فعاد في الحال فتلقاه الأمير عاصم بكل ملاطفة وتعزية وبالغ في تسكين اضطرابه على زوجته، وفي تخفيف أحزانه على أبيه، وانتهز فرصة أطلعه فيها على وصية أبيه قبل وفاته.
وكان من أهم نصوص تلك الوصية: أولا: أنه أوصى بثلث تركته للأمير عاصم كأنه ابنه، ونظرا لما كان له من الغيرة على البيت والاهتمام بالأملاك، وثانيا أنه حتم على نعيم أن يتجنب الزواج من أجنبية عنه دينا أو وضيعة عنه حسبا؛ لأن هذا لا يليق بأسرته الشريفة، وقد بالغت الوصية في هذا الموضوع جدا وتهددته بغضب أبيه إذا أبى.
أما الأمر الأول الذي ينص على إيهاب ثلث التركة للأمير عاصم فلم يعبأ به نعيم البتة، بل أظهر رضاه عنه وأقنع أخته الأميرة نعمت بصوابه وباستحقاق الأمير عاصم له كأنه أخوها الحقيقي، وأما الأمر الثاني؛ أي تحريم زواجه بأجنبية، فانقض على فؤاده كالصاعقة؛ لأنه كان يحب جوزفين حبا شديدا، وكان مزمعا أن يعلن قرانه الشرعي بها بعد وفاة أبيه، فحار ماذا يفعل؛ فإن داس وصية أبيه ولم يعبأ بها عرض نفسه للوم أقربائه ونقد العموم له، وهو يتحاشى جدا أن يثلم بأمر، وإن طلق جوزفين طلق سعادته وهناءه، وإذا كان قد حرم على نفسه أن يشرك في حبها، فكيف يسهل عليه أن يجحده، ولا سيما لأنه كان مشهورا بين ذويه وجميع معارفه بأنه ميزان العدالة والإنصاف، فلا يبخس أحدا حقه ولا ينقض عهده ولو كان النقض فدية لدمه!
وبعد تفكر طويل صمم على أن يبقى قرانه بجوزفين مكتوما، وأن يواظب على عزوبته الطاهرة، فكان ذوو قرباه يعتقدون أن جوزفين محظية عنده لا زوجة له، أما الأمير عاصم فكان يعلم أنها زوجته، ولكنه كان يتجاهل لغرض في نفسه. وغرضه أن يبقي أمامه مجالا لعرض أخته بهجت هانم على الأمير نعيم وعقد عروة الحب بينهما؛ ولهذا كانت الأميرة بهجت تتحبب لنعيم وتتودد إليه؛ لكي تستميله فيتزوجها ويترك محظيته جوزفين، أو بالأحرى زوجته. أقول زوجته لا محظيته؛ لأنه كان يستنكف جدا أمر المحظيات، ويعتقد أن الرجل لا حق له أن يحظى بغير زوجته، وأن المحظية مهما كانت مكرمة مع رجلها، ومهما كانت راضية في عشرته الوقتية، مغبونة في هذه الحظوة التي ليست إلا ضربا من العبودية.
على أن بهجت هانم عجزت عن استمالة الأمير نعيم بوسيلة التودد والتحبب، لا لأن نعيما كان يكرهها، ولا لأنه لم يكن يستحسنها، بل لأنه كان يحب جوزفين حبا يداني العبادة ويأبى أن يشرك في هواها، ومع ذلك كان يجامل الأميرة بهجت ويحاسنها، ويحاول أن يقنعها بالأساليب اللطيفة أن توجه حبها إلى سواه حيث يكون حبا مثمرا.
ولطالما أقنعت أخاها بأن الأمل بنعيم كالأمل بالماء من السراب، وأن الأفضل لها أن تنثني عنه إلى طلابها الآخرين الذين تردهم الواحد بعد الآخر، ولكن الأمير عاصم لم ينفك عن أن يحرضها على الثبوت في هواه ممنيا إياها بالفوز في الآخر القريب.
أما الأميرة نعمت هانم فكانت قد تزوجت الأمير ظافر ولم تستوف في مساكنته الحول الكامل حتى فاجأته المنون قبيل وفاة أبيها، وكانت حاملا فولدت على الأثر، وقيل لها إن طفلها مات في الساعة الأولى من عمره.
ولذلك صمم الأمير عاصم أن يغتنم خلو قلبها لكي يحتله، حتى إذا فاز بها وفازت أخته بالأمير نعيم بقيت تركة المرحوم الأمير إبراهيم تحت إمرته، وهذا جل ما كان يرمي إليه بسياسته الخفية. قلت: الخفية؛ لأنه لم يكن ليظهر طماعا بالمال، بل كان يتظاهر بالغيرة الحادة على مصلحة ذلك البيت، وكان كل من يعرفه يعتقد بإخلاصه المحض وطيب قلبه وتفانيه في الحرص على من يلوذ بذلك البيت الكريم.
على أن نعمت هانم بالرغم من اعتقادها بحسن مقاصده وسلامة طويته وغيرته عليها وعلى أخيها، لم تجد في نفسها ميلا إليه، بل بالأحرى لم تكن لتطيق التصور أنه زوجها أو أنها تسر بزوجيته؛ إذ لم يكن مليحا في عينيها. ولهذا كانت ترفض طلبه وأخيرا رضيت به على شرط أن تحفظ عصمتها كما تقدم القول.
صفحة غير معروفة