ومن هناك سمعت حديثهما بالمكيدة التي نصبت للأميرة جوزفين والأميرة نعمت معا، وقد ارتأيا أن يأتيا بجوزفين منومة بفعل الأفيون ويدخلاها إلى قصر الأميرة، وهناك يحقنانها تحت الجلد بالستركنين، وسلم الأمير عاصم لسنتورلي زجاجة السم ليلتئذ. وفي اليوم التالي، كنت أنا وسنتورلي معا في المكتب وكان الطقس حارا وقد خلع سنتورلي رداءه العلوي وعلقه، واتفق يومئذ أنه خرج من المكتب لأمر، فانتهزت فرصة غيابه وفتشت جيوب ردائه فوجدت فيها الزجاجة الزرقاء التي أعدها الأمير عاصم للحقن وملأها محلول الستركنين، وأعطاها في تلك الليلة لسنتورلي، ففتحتها وصبت ما فيها من الشباك وملأتها ماء رائقا، ورددتها إلى جيبه كما كانت.
وقد عرف القارئ تفصيل هذه الحكاية فلا لزوم لإعادة ما رواه عنها أحمد بك هنا، وفي خلال روايتها دهشت الأميرة نعمت وجوزفين من مسعى أحمد بك إلى خلاصهما وتخفيه، فقالت الأميرة: «عجيب! الآن فهمت تعريضك بجوزفين في تلك الليلة التي زرتني فيها في حين لم أكن أنتظر زيارتك.» - وقد زرتك لأختبئ في قصرك، فأخلص جوزفين وأنقذك من تهمة الجناية. - كم أنا مديونة لك يا أحمد بك! أتأسف أني أهنتك جدا في تلك الليلة. - ولكني أعذرك يا مولاتي؛ لأنك لم تكوني تعلمين سر رفضي نعمتك، فإن الرسالة التي كانت بيد الأمير عاصم كانت سيفا يلوح فوق رأسي فيصدني عنك. - فهمت الآن كل شيء، فهمت، أعذرك، إني ظلمتك في ما عاملتك فسامحني.
ثم قالت جوزفين: وأنا فهمت الآن سبب أنه لم يخبرني شيئا عن نفسه، ولا عن قصده في تخليصي، ولا عن سبب سجني وعن الذين سجنوني، بالحق إن هذه الحكاية غريبة، كنا محاطين بأسرار جهنمية ولا ندري.
وكان الأمير نعيم كالمنذهل يقول لأحمد بك: أتم حديثك. فاستأنف أحمد بك حديثه قائلا: ولكن طاش والحمد لله سهم المكيدة التي نصبها الأمير عاصم وسنتورلي للأميرة نعمت وجوزفين معا؛ إذ فتش الشرطة قصر الأميرة ليستكشفوا فيه جثة جوزفين بناء على إيعاز الغادرين الخبيثين فلم يجدوها ميتة ولا حية ...
فقالت الأميرة: أتأسف أني اتهمتك بهذه الوشاية يومئذ. - أعذرك يا مولاتي؛ لأنك كنت تجهلين كل شيء.
ولما أخفق سعيهما حارا في أمر جوزفين، فرجحا أن سنتورلي لم يحكم حقنة الستركنين، فلم تكن قاضية عليها، وأن الأميرة نعمت لما وجدتها في قصرها حية قذفتها إلى أوروبا من وجه أفراد الأسرة الناقمين عليها، أو أن جوزفين فرت من نفسها، وحينئذ قدرا أنها لا بد أن تبحث عن الأمير نعيم في أوروبا وتجتمع به، فألحقاها بمكيدة أخرى، وهي أنه كان لسنتورلي هنا قريبة مومس تدعى «جان سيرام»، فأرسلها إلى باريس باسم ماري جوتيه لكي تبحث عن الأميرة جوزفين وتعترض بينهما وتحول دون تفاهمهما، وتجتهد في أن تستميله إليها فتبتز منه المال إذا لم تنجح في التزوج منه.
فقال الأمير وجوزفين معا: يالله ... يا للخبيثة!
وقال الأمير: ولكن الحمد لله أنها لم تبتز مني شيئا ذا قيمة، لا لا، بل ابتزت من قلبي جوزفين حينئذ.
ثم جثا الأمير أمام جوزفين قائلا: رحماك جوزفين! رحماك! كم تألمت بسببي وأنت مثال الطهر! سامحيني.
فقبلته جوزفين والدمع يترقرق فوق مقلتيها ولم تستطع أن تنطق بحرف؛ لأن التأثر كاد يخنقها، وعاد أحمد بك إلى حديثه: ولسوء الحظ أن «جان سيرام»، أو بالأحرى ماري جوتيه كما تدعي، حتى الآن فازت بالقسم الأول من مهمتها، وهي إبعاد جوزفين عن الأمير، ولكن ماري جوتيه ما انفكت كل هذه السنين الغابرة أن تهاجم قلب الأمير نعيم، فلم تظفر منه إلا بقدر ما يظفر رصاص البندقية من الحصن المنيع؛ أي إنه يحت غبارا من حجره.
صفحة غير معروفة