نعيم
فقال لها: ولكن ليس في هذا الجواب إشارة إلى خيانتها. - وهل تجهل هي خيانتها؟! على أنها مفهومة ضمنا من الفقرة الأولى وأنت لا تود أن تصرح بها؛ لأن التصريح يؤلمك. - صدقت.
ثم طوى الورقة وغلفها وعنونها وأرسلها إلى جوزفين.
ولو لم تكن ماري جوتيه حينئذ عند الأمير نعيم لظفرت جوزفين بمقابلته، وربما أقنعته ببراءتها وكشفت له أكاذيب ماري، على أن هذه الفتاة الماكرة حسبت هذا الحساب؛ ولهذا انتقلت إلى فندق رويال، وجعلت تجتمع به ما استطاعت لكي تحجبه عن جوزفين، وبهذا الجواب الذي أملته ليرسله إلى جوزفين أجابت غرضين؛ الغرض الأول: أنها أبقت لكل من جوزفين والأمير نعيم اعتقاده في الآخر؛ أي إن جوزفين ظلت تعتقد أن الأمير نعيما عرف خبر سجنها وما جرى لها واقتنع أنها بريئة، والأمير نعيم ظل يعتقد أنها خائنة لا تستحق الرحمة. والغرض الثاني: أنها - أي ماري - برهنت للأمير نعيم أنها طيبة القلب سليمة النية.
وإذا شئت أن تعرف السر الذي يميز الداهية عن الجاهل، أو يفرق السياسي المحنك عن الرجل البسيط فما هو إلا إتقان الكذب، وما إتقان الكذب بصعب إذ كان الضمير يسكت ولا يحرك ساكنا، دلني على واحد من الذين اشتهروا في هذا القطر - خصوصا - بالدهاء وحسن السياسة في معاملة الناس والمهارة في استدرار الأموال، وأطلعني على تاريخ حياته الحقيقي، وأنا أعدد لك كل يوم ألف كذبة من أكاذيبه التي تؤذي الناس وتنفعه.
على أن الرجل الطيب القلب الصادق الأمين يعجز عن أن يستدر من المال أكثر مما يوازي تعبه هذا إذا كان من الأذكياء، وإلا فيضيع نصف تعبه عليه بين تلاعب الدهاة، ولكن هذا الطيب يعد في عرف الجمهور بسيطا أو جاهلا أو غرا.
جوزفين كانت ذكية كماري وربما أذكى، ولكن ماري كانت منافقة وجوزفين طيبة القلب؛ ولهذا عدت تلك سياسية محنكة وهذه بسيطة جاهلة، وتلك فازت على هذه، ولا سيما لأن الأمير نعيما طيب القلب تجوز عليه الأكاذيب.
وحدث في أحد تلك الأمساء أن الأمير نعيما اصطحب ماري إلى غاب بولونيا، وكان يتمشى معها هناك، فصادفا جوزفين قاعدة على مقعد وحدها ورأسها على يدها، فخطر للأمير نعيم أن هذه الفرصة أفضل الفرص للانتقام منها، فقال لماري: «تعالي نجلس هنا.» وجلسا على مقعد آخر مقابل جوزفين، واتكأت ماري على ذراعه وجعلا يتحدثان غير مكترثين، فلما نظرتهما جوزفين استلقت على كرسيها واهية القوى من شدة التأثر، ولكنها ما لبثت أن تجلدت ونهضت من مكانها ومضت لا تلوي.
وكانت ماري مضطربة جدا؛ لأنها خافت أن جوزفين تتهيج جدا من هذه النكاية القاتلة، وتهجم عليها وتضربها وتعاتب الأمير نعيما وتروي له حقيقة أمرها فتفضح أكاذيب الواشية بها، ولكن جوزفين أطيب جدا من أن تقدم على شر؛ ولذلك شكرت ماري الله على ذهاب جوزفين ساكتة، ولم تعد بعد ذلك تخاف سوءا من الالتقاء بها في حضرة الأمير.
وقد استلذ الأمير هذا الانتقام فألح على ماري أن تنزل في ذلك المساء في فندق إيطاليا لكي تزورها هناك، فتعرف جوزفين بوجوده مع ماري فتحترق غيظا، فطاوعته ماري مكرهة؛ لأنها بقيت تحسب حسابا لثورة جوزفين، ولكنها استعدت للمقاومة والمغالبة بكل قواها.
صفحة غير معروفة