وقد خطر لها حينئذ أن الأمير نعيما لم ير مدام ببيني عندها ولا مرة، وإذ ذاك أدركت أن هذه الغادرة كانت تنتهز فرصة غيابه لكي لا يراها ولا يعرفها، بل ذكرت جوزفين حينئذ أن مدام ببيني كانت تتجنب أن يراها خدم القصر ما استطاعت لكي لا تنطبع في أذهانهم صورتها.
وماذا تخشى مدام ببيني؟ فقد أتمت مهمتها وأخذت أجرتها وبعدت عن مكان تلك الجناية الفظيعة، وأصبحت جوزفين في عهدة آخرين لا يعلمون أصلها ولا فصلها، وليس عليهم إلا حراستها، وهكذا تتنقل بين أيدي الأشرار المأجورين لكي يبقى أمرها سرا مكتوما.
الفصل العاشر
لا تدري أين هو
وبعد برهة ساعة فتح الباب، فدخلت امرأة إفرنجية تكاد تتجاوز طور الكهولة، وقدمت لجوزفين فطورا من اللبن والعيش والزبدة، وقالت لها بكل لطف باليونانية ما معناه: خذي يا بنيتي كلي.
فاستأنست جوزفين بليونة صوتها ولكنها لم تفهم مقالها؛ لأن اليونانية رطانة عندها، فكلمتها بالفرنسية قائلة: بحق من تحبين وتعزين يا سيدتي قولي لي لماذا أتي بي إلى هنا؟
ولم تكن المرأة تفهم من الفرنسية إلا كلمات معدودة وأما من النمساوية التي هي لغة جوزفين فلم تكن تفهم كلمة؛ ولذلك عز على جوزفين أن تسترحمها إلا بالإشارات كالركوع أمامها والسجود عند قدميها، فكانت تجيبها تلك المرأة اليونانية بهز كتفها، ولسان حالها يقول: «لا أفهم ماذا تقولين؟ وإذا فهمت فماذا تستفيدين؟»
ثم أدارت لها ظهرها، وانصرفت، وأقفلت الباب وراءها.
ولا نتمادى في وصف ما لقيته جوزفين من العذاب في ذلك السجن ومن آلام الوحدة وأحزان الفراق وغموم الوحشة، فكانت تقضي كل النهار وحدها في تلك الغرفة تبكي وتنوح، وتلك المرأة السجانة كانت تدخل عليها في ميعاد الأكل وتقدم لها طعامها، وعند العصر تخرجها من الغرفة إلى رحبة المنزل، وبعد الغروب تخرج إلى الشرفة لكي تتنشق الهواء النقي، فلا ترى جوزفين غير الظلام وبعض الأنوار الضئيلة على بعد شاسع جدا؛ ولذلك لم يتسن لها أن تعرف ما نسبة سجنها هذا إلى المدينة، أهو إلى جنوبها أو إلى شمالها؟ ولا مسافة بعده عن قصرها.
ولا ريب أن يشعر القارئ من نفسه مع هذه المسكينة وما لاقته من الأحزان، ويدرك ما آلت إليه حالها من السقم والهزال وضعف الجسم وخبال العقل.
صفحة غير معروفة