والعجب الثاني من هذا الشافعي -أيده الله- أن مذهبه وما يعتقده جواز الرؤية لله عز وجل بالأبصار في دار القرار، والرسول صلى الله عليه وسلم رأى تلك الليلة ما أراه الله إياه في محل دار القرار، فكيف يجوز لنا أن نراه في دار القرار في الجنة، ولا يجوز ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم ؟ وقد قال كعب الأحبار: إن الله قسم كلامه ورؤيته بين [محمد وموسى فكلم موسى مرتين]، ورآه محمد مرتين.
وقال ابن عباس: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، وموسى بالكلام، ومحمد بالرؤية -صلوات الله عليهم أجمعين وعلى إخوانهم المرسلين-.
وقد حكى صاحب الإيضاح في تفسير القرآن أن علماء السلف قالوا إن الرؤية كانت في اليقظة، فإن زعم زاعم أنه أسري بروحه في اليقظة، ومازال جسده عند عائشة، على معنى الكشوف للأولياء، فليس بصحيح من وجوه:
أحدها: أنه لا معجزة فيه؛ لأن ذلك يراه الموقن بنور اليقين مرات في عمره، ويسمى فراسة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله))، وما نقل ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا مرة واحدة.
الوجه الثاني: أن هذا لا يسمى إسراء، إنما يسمى كشوفا، ولأن الروح إذا سرت عن الجسد حصل الموت بمفارقتها إياه، وإن كان الإسراء من غير مفارقة، فهذا خلاف اللغة.
والوجه الثالث: أنه لو كان كما زعم الزاعم لما أنكره أحد من الكفار؛ لأن هذا من جنس الأفكار الصحيحة.
والوجه الرابع: أي فايدة في ركوب البراق إذا كان الإسراء بالروح، وهي غير محتاجة إلى ركوب، وفي الحديث الذي ذكرناه آنفا أنه شرب الماء من القدح، وفرغ الماء من الإناء، وهذا دليل على ما قلناه؛ لأنه لم يسمع قط بأن الروح تشرب، وذلك مستحيل.
والوجه الخامس: أن أشرف منزلة ورتبة للنبي -صلوات الله عليه وسلامه- إنما هو كونه حصل له منزلة قاب قوسين، فنريد ندفع هذا لأجل قول قيل.
صفحة ٥٥٤