أحد النواتج الجانبية لعملية التسريح التي أعقبت الحرب كان توقف البرنامج الذري الأمريكي بشكل شبه تام. كان الرئيس ترومان حين أعلن قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية قد ألمح إلى أن عملية إنتاج القنابل الذرية تسير على قدم وساق؛ إذ قال: «هذه القنابل قيد الإنتاج في صورتها الحالية، كما يتم تطوير أنواع أخرى أشد قوة.» ورغم أن ما قاله ليس خطأ من الناحية الشكلية، فإنه كان مضللا عن عمد. في الواقع، كانت لدى الأمريكيين حفنة قليلة من القنابل في ذلك الوقت وإبان المراحل المبكرة من الحرب الباردة، وهذا كان نتاجا لقرارات سياسية اتخذتها واشنطن وليس بسبب أي قيود لوجستية. فبنهاية عام 1945 كانت الولايات المتحدة قد بنت ست قنابل ذرية، وبنهاية عام 1947 كانت تملك 32 قنبلة فقط، فيما وصل عدد القنابل بنهاية عام 1948 إلى 110 قنابل. وبنهاية عام 1949، حين فجر الاتحاد السوفييتي أولى قنابله الذرية، كانت الولايات المتحدة تملك 235 قنبلة ذرية. ثم نما مخزون القنابل الذرية على نحو أسرع بكثير بعد عام 1950، حين أمر ترومان بتعزيز القوة العسكرية على خلفية الحرب الكورية.
لم يكن بناء المزيد من القنابل الذرية ليحقق الكثير دون تطوير عقيدة نووية وسياسة إشهار قابلتين للتطبيق. وقد كانت أول أزمة من أزمات الحرب الباردة تؤكد على هذا هي أزمة برلين عام 1948، والتي تعد أولى الأزمات النووية الحقيقية التي شهدتها الحرب الباردة. ويزعم أحد المراقبين أنه في ضوء السابقة التي أرستها هذه الأزمة، «من الجلي دون أدنى شك أنها كانت أخطر أزمات الحرب الباردة.» وحين حاصر ستالين برلين في منتصف عام 1948 بدا أن هذا يقدم الدليل الملموس الذي كانت تفتقر إليه حتى ذلك الوقت تحذيرات فورستال وغيره من أن الاتحاد السوفييتي لا يملك مصالح متعارضة مع مصالح الولايات المتحدة وحسب، بل إنه أيضا لن يتورع عن العمل على تحقيق هذه المصالح. ردا على هذا الحصار التزم ترومان التزاما صريحا بالحفاظ على الوجود الغربي في برلين، رغم أنه لم يكن يملك أدنى فكرة عن كيفية تحقيق هذا. وكانت أشهر ردود الفعل على هذا التحدي هو الجسر الجوي إلى برلين، ذلك الجهد البارع الهادف لتوصيل المؤن للمليوني شخص القاطنين بالقطاع الغربي من المدينة جوا. بيد أن ترومان لم ير في الجسر الجوي أكثر من محض وسيلة للمماطلة.
كانت هيئة الأركان المشتركة قد أوضحت بما لا يقبل الشك أنه لم يكن هناك من سبيل للفوز في حرب تقليدية في أوروبا ضد الجيش الأحمر. ورغم أن بعض الخطط الأمريكية الحربية شديدة السرية حاولت استخدام القنابل الذرية، فقد ظلت الكيفية التي يمكن أن يسهم بها هذا السلاح الجديد في الجهد الحربي غير واضحة. وقد أمل المخططون العسكريون أن تكون القنبلة الذرية «مزية متفردة» في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي، بينما كانوا يدركون في الوقت عينه أن الطبيعة والبنية الجغرافية للاتحاد السوفييتي لا تسمح إلا بوجود القليل من الأهداف ذات القيمة العالية. كان استهداف مدن مثل موسكو ولينينجراد أمرا ممكنا، بيد أنه كان سيتسبب في مضار كثيرة دون فوائد مماثلة؛ إذ إنه في نظر بلد خسر نحو 27 مليونا من أبنائه في الحرب العالمية الثانية لن تكون للصدمة قيمة كبيرة ومن غير المرجح أن تسهم هذه الخطوة في النصر. لقد بينت الحرب العالمية الثانية قيمة استهداف المنشآت الحربية للعدو بواسطة القوة الجوية الاستراتيجية، لكن كان الاتحاد السوفييتي يختلف اختلافا كبيرا عن اليابان أو ألمانيا. فنظام النقل السوفييتي، الذي وصفه المخططون العسكريون بأنه «أهم التروس في ماكينة الحرب السوفييتية»، كان يمتد عبر مسافات شاسعة دون أن يحوي سوى محاور تجميع قليلة، وقد كان شديد الانتشار بحيث يستحيل أن يمثل هدفا ممكنا للعدد القليل نسبيا من القنابل الذرية الذي كانت تملكه الولايات المتحدة في تلك الفترة. كانت الصناعات العسكرية السوفييتية موزعة بدرجة كبيرة هي الأخرى، ووحدها المصادر البترولية للدولة هي التي مثلت هدفا ممكنا للقصف. ولم ير مجلس الأمن القومي الأمريكي أن الولايات المتحدة تملك القدرة على تنفيذ «ضربة حاسمة» ضد الاتحاد السوفييتي إلا في عام 1956.
استنزفت عملية التسريح التي أعقبت الحرب على نحو خطير الخيارات العملية المتاحة أمام الرئيس لاستغلال الاحتكار الذري ، كما أعاقت السرية الشديدة المحيطة بالمعلومات المرتبطة بالأسلحة الذرية هذه الخيارات بدرجة أكبر؛ فالرئيس نفسه لم يكن قادرا على أن يحصل على إجابة مباشرة حول عدد الأسلحة الموجودة في المخزون الأمريكي وما يمكنها أن تفعله. وفي مواجهة العجز العسكري الواضح الذي كشف عنه غياب أي خيارات جيدة للتعامل مع حصار برلين، عملت هيئة الأركان المشتركة على مراجعة الوضع الدفاعي للولايات المتحدة، بداية بالاستراتيجية النووية. وقد استغل فورستال وهيئة الأركان المشتركة الحصار في مساعيهم الهادفة لمعارضة ميزانيات ترومان الدفاعية الشحيحة، واستغلوا الفرصة للقول بأن الاعتماد على محض تصور للقوة لم يكن بالأمر الكافي، ولا بد أن يكون مدعوما بقدرات عسكرية ملموسة. وفي ذروة حصار برلين، خول فورستال - وقد أحبطه تردد ترومان في حسم مسألة «ما إذا كانت القنبلة الذرية ستستخدم في الحرب أم لا» - من تلقاء نفسه هيئة الأركان المشتركة بأن تبني تخطيطها للحرب على الافتراض بأن السلاح النووي سيستخدم بالفعل.
علاوة على ذلك، أظهر الحصار عدم كفاءة الاستراتيجية النووية الأمريكية حين أجبرت واشنطن على ارتجال نوع من الردع الذري عن طريق إرسال القاذفات «الذرية» من طراز «بي-29» إلى بريطانيا وألمانيا. وكان كل ذلك محض خداع.
قليلون فقط هم من فكروا في الكيفية التي ستشن بها حرب ذرية. وقد اقترح ونستون تشرشل توجيه إنذار للسوفييت يهدد بأنه ما لم تتراجع القوات السوفييتية عن حصار برلين، وتنسحب من ألمانيا الشرقية، وتتراجع حتى الحدود البولندية؛ فإن القاذفات الذرية الأمريكية ستمحو المدن السوفييتية من الوجود. وقد اتخذ قائد القوات الأمريكية في ألمانيا، الجنرال لوشيوس دي كلاي، موقفا مشابها وأخبر فورستال أنه «لن يتردد في استخدام القنبلة الذرية وسيضرب موسكو ولينينجراد أولا.» كما كان وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن متحمسا هو الآخر كي يري موسكو «أننا جادون فيما نقول».
رغم إغراء الهجوم على موسكو، كانت واشنطن تخطو في تمهل. فعلى حد تعبير السياسة الحكومية البريطانية الرسمية، بدا من المشكوك فيه أن يضيف الغرب «لدغة العقرب» إلى تلك التهديدات النووية، وهو ما أقر به واضعو السياسات الأمريكان في هدوء. إن محض إقدام ستالين على حصار برلين في خطوة استفزازية في المقام الأول، رغم الاحتكار الذري الأمريكي، كان في حد ذاته دليلا واضحا على أن الردع لا بد وأن يكون ظاهرا جليا، وأن وجود الأسلحة الذرية في حد ذاته ليس بالأمر الكافي. علاوة على ذلك، خشي الكثيرون من أن تكون الولايات المتحدة قد قطعت على نفسها التزامات تفوق قدراتها العسكرية.
القنبلة السوفييتية
أظهر ستالين عدم اكتراثه بالتأثير الرادع للقنبلة. وقد كان هذا نذيرا بالفجوة الواسعة بين الفهم السوفييتي والفهم الأمريكي لمفهوم الردع النووي، وهي الفجوة التي ترسخت في العقود التالية، وكما صرح ستالين في تعليقات نشرتها صحيفة «برافدا» في سبتمبر 1946 فإن «القنبلة الذرية مقصود منها إخافة ذوي الأعصاب الضعيفة، لكنها تعجز عن تحديد مصير الحرب.» عوضا عن ذلك عبر عن إيمانه الراسخ بأن ما أسماه العوامل الدائمة من شأنها أن تضمن تفوق الاتحاد السوفييتي في أي حرب مستقبلية، كما حدث في الحرب الماضية.
كان عدم الاكتراث المحسوب من جانب ستالين مناورة استراتيجية. لقد كان أمرا ملائما من الناحيتين السياسية والدبلوماسية، بيد أنه كان يخفي الحقيقة عن عمد. فخلف هذا المظهر العام الزائف، كشفت تعليقات ستالين الخاصة وتوجيهاته عن فهم أدق للتأثير المحتمل للقنبلة الذرية على العلاقات الدولية. كان علماؤه أنفسهم قد حذروه في مايو 1942 من أن البريطانيين والأمريكيين ربما يعملون على نحو مشترك من أجل بناء القنبلة الذرية - بل إنه في واقع الأمر علم بشأن مشروع مانهاتن قبل أن يعلم به هاري ترومان نفسه - لكن استيعابه لمعنى ذلك السلاح الجديد كان بطيئا. فقد كان متشككا في البداية في أن مثل هذا السلاح قد يكون مهما، وحين أعلمه مدير الاستخبارات بأن بعض التقارير تفيد بأن البريطانيين والأمريكيين يتعاونون من أجل بناء القنبلة الذرية، عبر ستالين عن شكوكه من كون هذا جزءا من برنامج تضليل متعمد. لكن ما إن اقتنع ستالين بالأمر - وهو ما جرى على سبيل المفارقة عن طريق الغياب المريب للمعلومات العلمية من الدوريات، وذلك في إطار الجهود الحكومية الأنجلو أمريكية لحجب المعلومات عن الألمان، لا عن طريق أي تأكيد إيجابي - حتى أدرك أهمية القنبلة. ويزعم بافل سودوبلاتوف - وهو جاسوس سوفييتي سابق - أنه حين اقترح أحد كبار العلماء السوفييت على ستالين في أكتوبر 1942 أن يسأل روزفلت وتشرشل عن البرنامج، رد ستالين قائلا: «ستكون من السذاجة السياسية أن تعتقد أنهما سيطلعانني على معلومات بشأن أسلحة ستهيمن على العالم في المستقبل.» وهو تعليق مثير الاهتمام؛ لأنه يبين شكه الواضح في حلفائه كما يبين إقراره بالقدرة الثورية للقنبلة الذرية.
صفحة غير معروفة