جرت زيارة باروخ إلى البيت الأبيض من أجل تسليم خطابه في الثامن عشر من سبتمبر على خلفية من التغطية الصحفية الواسعة لآراء وزير التجارة هنري والاس، الذي كان معارضا لخطة باروخ. وقد ضربت ملاحظات والاس - التي لاقت قبولا واسعا من الجمهور الليبرالي - باروخ في الصميم، وأضرت بصورته العامة على نحو بالغ. قال والاس إن أحد العيوب الأساسية لخطة باروخ كان الإصرار الأمريكي على أن تتخلى جميع الدول الأخرى عن حقها في استكشاف استخدامات الطاقة النووية، وأن تسلم المواد الخام إلى هيئة دولية، بينما لن تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها إلى أن تتأكد من إرساء نظام كهذا. وكان والاس يرى أن الولايات المتحدة لم تكن لتقبل بمثل هذه الصفقة لو أنها كانت على الطرف الآخر من طاولة المفاوضات.
رأى باروخ أن مثل هذا الشقاق لن يؤدي إلا إلى تقويض أثر التصويت القادم باللجنة. وفي مؤتمر باريس للسلام لوزراء الخارجية، تقدم وزير الخارجية جيمس إف بيرنز بشكوى مماثلة، زاعما أن تصريحات والاس قد فتت في قوة موقفه هناك. ومن ثم هدد كل من باروخ وبيرنز بالاستقالة ما لم يتراجع والاس عن تصريحاته. وفي ضوء هذه الأزمة طلب ترومان من والاس الاستقالة؛ وبالفعل تلقاها منه في العشرين من سبتمبر.
وبينما تواصلت قضية والاس-باروخ في الصحافة، دعا السوفييت أخيرا إلى تصويت على تقرير اللجنة الفنية والعلمية. وقد سعدت المجموعة بالتصويت السوفييتي لصالح التقرير، بيد أنها كانت سعادة قصيرة الأجل؛ إذ صرح المندوب السوفييتي بأن صوته مصحوب بتحفظ مبني على حقيقة أن المعلومات التي بنيت عليها نتائج التقرير كانت معلومات غير كاملة؛ ومن ثم ينبغي اعتبارها معلومات مفترضة ومشروطة. قبلت اللجنة الثانية بشكل رسمي تقرير اللجنة الفنية والعلمية في الثاني من أكتوبر، وبدأت في سماع شهادة عدد من خبراء المجال.
ورغم سير أعمال اللجنة الثانية على نحو سلس، أوضحت بعض الأفعال السوفييتية خلال شهر أكتوبر 1946 بجلاء أن الطرفين كانا مختلفين أشد الاختلاف. في الوقت عينه ضغط باروخ على ترومان من أجل تلقي رد على الخطاب الذي أرسله له في شهر سبتمبر ودعا فيه إلى تصويت مبكر. وحين تلقى باروخ في نوفمبر الإذن بفرض التصويت بنهاية العام، كانت خطة باروخ قد رفضت بالكامل تقريبا، وصارت سمعته عرضة لهجمات شرسة من جانب السوفييت في الأمم المتحدة.
الحرب الباردة تدخل الصورة
في الثالث عشر من نوفمبر، في أول اجتماع عام للجنة الأمم المتحدة المعنية بالطاقة الذرية، كانت نتيجة التصويت على ضرورة تسليم اللجنة نتائجها وتوصياتها إلى مجلس الأمن قبل الحادي والثلاثين من ديسمبر 1946 موافقة عشر دول مقابل امتناع دولتين (الاتحاد السوفييتي وبولندا) عن التصويت. ورغم تحركات السوفييت الهادفة للتأخير، اقترب باروخ من هدفه المتمثل في عمل تصويت مبكر على خطته. وفي الخامس من ديسمبر اقترح باروخ - الذي تعزز موقفه بفضل الدعم الذي تلقاه من البيت الأبيض - أن يتم تبني الخطة التي تحمل اسمه كتوصية إلى مجلس الأمن، بيد أنه لم يصر على التصويت في ذلك اليوم. وفي العشرين من ديسمبر رفضت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية مقترحا سوفييتيا بتأجيل التصويت لمدة أسبوع، فيما اقترح الوفد البولندي إحالة خطة باروخ إلى اللجنة السياسية والاجتماعية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. عند هذه النقطة، رفض جروميكو الاستمرار في المشاركة، واستمر على هذا الموقف حتى نهاية العام.
بعدها بعدة أيام، وفي السادس والعشرين من ديسمبر، أقرت اللجنة الثانية تقريرها عن الضمانات، ورفعته إلى اللجنة العاملة، التي ناقشت في اليوم التالي خطة باروخ فقرة بفقرة. كانت هناك نقطة خلاف وحيدة: حق النقض. وافقت المجموعة على نقل الأمر إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية الكاملة مع رسالة إحالة تشرح الخلاف المتبقي، وملحوظة تفيد بعدم مشاركة السوفييت. وفي الاجتماع الأخير للجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، والذي جرى في الثلاثين من ديسمبر، وافقت المجموعة على مقترح باروخ الخاص بتبني تقرير اللجنة العاملة وتقديمه إلى مجلس الأمن اليوم التالي. كانت الموافقة بالأغلبية، لكن دون موافقة السوفييت، وهو ما أفضى إلى ما سماه سيناتور كونيتيكت المستقبلي جوزيف آي ليبرمان، «نصرا زائفا» للولايات المتحدة.
استقال باروخ، كما كان متفقا عليه - بعيد التصويت - تاركا مكانه لمندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وارن أوستن، وهو ما يفترض به تقوية المركز الأمريكي من خلال الجمع بين منصبي المفاوض والمندوب في شخص واحد. ناقش مجلس الأمن التقرير دون نجاح كبير حتى مارس 1947، حين أصدر قرارا بإحالة المناقشات مرة ثانية إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية. قدمت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية تقريرها الثاني في سبتمبر، وتضمنت المداولات اثني عشر تعديلا سوفييتيا على التقرير الأول للجنة، رفضت جميعها. لم يناقش مجلس الأمن التقرير الثاني للجنة، واستمرت اللجنة في عملها خلال ربيع عام 1948. خلص التقرير الثالث للجنة إلى أن المجموعة وصلت إلى طريق مسدود، وطلب من مجلس الأمن تعليق المداولات. وفي صيف عام 1948 استخدم السوفييت حق النقض ضد قرار بمجلس الأمن يقضي بالموافقة على كل تقارير لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، بينما وافق قرار غير ملزم صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة على الخطة التي أقرتها الأغلبية، على أمل أن تجد لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية يوما ما سبيلا لوضع الأسلحة النووية تحت السيطرة. لكن الأمل تبدد على ما يبدو في نوفمبر 1949 حين وافقت الجمعية العامة على تعليق أعمال لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية.
حين قدم برنارد باروخ مقترح الولايات المتحدة المبدئي للتعامل مع الأسلحة الذرية مع بدء عمل لجنة الأمم المتحدة المعنية بالطاقة الذرية في يونيو 1946، فتح الباب أمام مئات - إن لم يكن آلاف - المناقشات ثنائية الأطراف ومتعددة الأطراف بشأن إجراءات السيطرة على التسلح على مدار العقود الستة التالية. كانت خطة باروخ تهدف إلى إنشاء «هيئة دولية للتطوير الذري»؛ من أجل السيطرة على جميع الأنشطة المرتبطة بالطاقة الذرية، بداية من المواد الخام إلى التطبيقات العسكرية، والتفتيش على جميع الاستخدامات الأخرى. وقد عارض المندوب السوفييتي، ومندوبو دول أخرى، المقترح الأمريكي؛ نظرا لأن الولايات المتحدة لم تتخل عن ترسانتها النووية، في الوقت الذي تنتظر فيه من الدول الأخرى أن تتخلى عن تطوير ترساناتها. ولم يكونوا مخطئين تماما. فقد أكد باروخ في ديسمبر 1946 على أن «أمريكا تستطيع الحصول على ما تريد لو أنها أصرت على ذلك، ففي نهاية المطاف نحن من نملك القنبلة الذرية وليسوا هم، وسيستمر الوضع كذلك لفترة طويلة قادمة.» بيد أنه كان مخطئا في كلتا النقطتين؛ إذ رفض السوفييت خطته، وسرعان ما أنتجوا قنابلهم الذرية (انظر الفصل الرابع).
لخص المؤرخ بارتون بيرنشتاين الموقف بقوله: «لم تكن الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي مستعدين في عام 1945 أو عام 1946 لتقبل المخاطر التي يطلبها الطرف الآخر من أجل الوصول لاتفاق. وبهذا المعنى، كان الطريق المسدود الذي وصلت إليه مناقشات موضوع الطاقة الذرية رمزا لانعدام الثقة المتبادل الذي شاب العلاقات السوفييتية الأمريكية.» وقد لعب إصرار واشنطن المتواصل - بداية بخطة باروخ - على فرض أنظمة التفتيش التدخلي من أجل التحقق من الالتزام بالمعاهدات - والذي رآه الاتحاد السوفييتي تجسسا واضحا - دورا بارزا في جعل المساعي المستقبلية للسيطرة على التسلح تصل إلى طريق مسدود. وليس لنا أن نندهش لو سار الأمر على نحو مختلف في «صراع من أجل روح البشرية ذاتها» حسب الكلمات التي تحدث بها الرئيس السابق جورج دبليو بوش بعد ذلك بسنوات عدة في سياق مختلف وإن كان ذا صلة.
صفحة غير معروفة