أصل الزراري شرح صحيح البخاري - مخطوط
الناشر
عطاءات العلم - موسوعة صحيح البخاري
مكان النشر
https
تصانيف
(كتاب الوُضوء)؛ بضم الواو من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة اسم للفعل، وبفتح الواو: اسم للماء الذي يُتوضَّأ به، وهو المشهور، وحكي: فتح الواو فيهما، وحكي أيضًا: ضم الواو فيهما، وشرعًا: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، والصحيح: أنه ليس من خصائص هذه الأمة، وإنما الذي اختصت به: هو الغرة والتحجيل، ذكره العلامة نوح أفندي.
وفي رواية عقب البسملة: (كتاب الطَّهَارة باب ما جاء في الوضوء)، وهذا أنسب؛ لأنَّ الطهارة أعمُّ من الوضوء، والكتاب الذي يذكر فيه نوع من الأنواع ينبغي أن يترجم بلفظ عام حتى يشمل جميع أقسام ذلك الكتاب، وهي بفتح الطاء مصدر: طهر؛ بفتح الهاء أفصح من ضمها، وبكسرها: الآلة كالماء والتراب، وبضمها: اسم لما فضُل بعد التطهير، وحكي: الضم فيهما، وحكي أيضًا: الفتح فيهما، وهي النظافة.
وشرعًا: زوال حدث أو خبث، وهو تعريف صحيح؛ لصدقه بالوضوء وغيره كالغسل من الجنابة، أو الحيض، أو النفاس؛ بل وبالتيمم أيضًا.
والحدث: مانعية شرعية قائمة بالأعضاء إلى غاية استعمال المزيل، والخبث: عين مستقذرة شرعًا.
وأمَّا سبب وجوبها؛ فقيل: الحدث والخبث، قيل: وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي، وقيل: سببها: إقامة الصلاة، وصححه في «الخلاصة»، لكن نسبه في «العناية» إلى أهل الظاهر، وصرَّح في «غاية البيان» بفساده؛ لصحة الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات مادام متطهِّرًا.
وقيل: سببها: إرادة الصلاة، وصححه في «الكشف»، واعترضه في «الفتح والتبيين»، وقيل: سببها: وجوب الصلاة لا وجودها؛ لأنَّ وجودها مشروط بها فكان متأخرًا عنها، والمتأخر لا يكون سببًا للمتقدم، كما في «العناية»، والذي اختاره الأكثر من أهل المذهب أن سببها: إرادة ما لا يحل إلَّا بها من صلاة ومسِّ مصحف كما في «البحر الرائق».
وهل الحدث حلَّ في جميع البدن كالجنابة حتى يمنع من مسِّ المصحف بظهره وبطنه أو مختص بأعضاء الوضوء؟ اختلف فيه، والأصحُّ: المنع كما في «الدر المختار»، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».
(١) [باب ما جاء في الوضوء]
هذا (باب ما جاء) من اختلاف العلماء (في) معنى (قول الله تعالى:)، وفي رواية: (بابٌ)؛ بالتنوين، (في الوضوء وقول الله ﷿، وفي أخرى: (باب ما جاء في الوضوء وقول الله ﷿ (﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾)؛ فـ (يا) حرف نداء للبعيد حقيقة أو حكمًا، وقول الداعي: يا الله استقصار منه لنفسه واستبعاد عن مظانِّ القبول لعمله، و(أي) موصولة عند الأخفش حذف صدر صلتها، والمعنى: يا من هم الذين، أو نكرة مقصودة مبنية على الضم فهي وصلة لما فيه أل نحو يا أيها الرجل، ومنه الآية، و(الهاء) تكون للتنبيه فهي نعت؛ أي: في النداء، و(الذين): اسم موصول موضوع للجمع وليس هو جمع الذي؛ لأنَّه عام لذي العلم وغيره، والذي يختصُّ بذوي العلم ولا يكون الجمع أخصُّ من مفرده، وهو إما أن يكون صفة لـ (أي) أو يكون موصوفها محذوفًا تقديره: يا أيها الناس الذين آمنوا، فالمجموع كله: هو صفة؛ أي: لا المقدر وحده ولا الموصول وحده، فسقط اعتراض اللاقاني على حافظ الدين النسفي.
و(آمنوا): فعل ماض للجمع المذكر الغائبين من: (آمن يؤمن إيمانًا)، وإنَّما قال: (آمنوا) ولم يقل: آمنتم؛ ليدخل كل من آمن إلى يوم القيامة، ولو قال: آمنتم؛ لاختص بمن كان في عصره ﵇.
وافتتح المؤلف بهذه الآية؛ للتبرك ولأنها أصل في استنباط المسائل، وإن كان حق الدليل أن يؤخر عن المدلول؛ لأنَّ الأصل في الدعوى: تقديم المدعى.
(﴿إِذَا﴾) ظرفية تتضمن معنى الشرط فلذا دخلت الفاء في جوابها، (﴿قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾)؛ أي: أردتم القيام إليها وأنتم محدثون، يدل لذلك ما في «مسلم» عن بريد: (أنه ﵇ صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئًا لم تكن تصنعه فقال: «عمدًا صنعته»)، ورواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي والترمذي فثبت أن في الآية مقدَّرًا، وروى الحافظ الطحاوي والرازي والطبراني عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال: كان ﵇ إذا أجنب أو أهراق الماء إنَّما نكلِّمه؛ فلا يكلِّمنا ونسلِّم عليه؛ فلا يسلِّم علينا حتى نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾؛ الآية، فدلَّ على أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة، وأن التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، وبهذا يظهر فساد قول أهل الظاهر: أن الوضوء واجب في حق المحدث، سنة في حق الطاهر، فكل من قام إليها؛ فعليه أن يتوضأ.
واستدلُّوا بحديث ابن حنظلة: (أنه ﵇ أمره بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلمَّا شقَّ عليه؛ وضع عنه الوضوء إلا من حدث)، وهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به، ويردُّه قوله ﵇: «المائدة من آخر القرآن نزولًا فأحلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها» على أن الجمهور على أن المطلق محمول على المقيد؛ فافهم؛ وتمامه في «عمدة القاري».
واعلم أن إمامنا الشيخ بدر الدين العيني قد تكلم على هذه الآية في «شرحه» كعادته في الآحاديث كلامًا تحقيقيًّا لم يسبق إليه أصلًا لما هو في غاية التحقيق والتدقيق، وترتيب المعاني، والاستنباط، والاختلاف الواقع بين العلماء، فرحم الله هذا المؤلف ما أغزر علمه وأوفر فهمه قدَّس سره العزيز.
وإنَّما أضمر الحدث في الآية؛ كراهة أن يفتتح آية الطهارة بذكر الحدث، كما في قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]؛ حيث لم يقل هدى للضالين الصائرين إلى التقوى بعد الضلال؛ كراهة أن يفتتح بذكر الضلالة، فالحدث شرط بدلالة النصِّ وصيغته أمَّا الأول: فقوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾؛ أي: من مضاجعكم، وهو كناية عن النوم وهو حَّدث، وأما الثاني: فلأنه ذكر في (التيمم) الذي هو بدل عنه، والبدل إنَّما وجب بما وجب به الأصل، فكأن ذكر الحدث في الحديث ذكر في المبدل.
وقوله: (إلى الصلاة): يتناول سائر الصلوات المفروضات، والسنن المؤكدات، والنوافل؛ لأنَّ الصلاة اسم للجنس؛ فاقتضى أن يكون من شرط الصلاة الطهارة أيُّ صلاة كانت.
واستدل طائفة بظاهر الآية: أن الوضوء والتيمم لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت، وهو فاسد؛ لأنَّه لم يوقِّت في النص دخول الوقت، ويؤيِّده حديث النسائي عن أبي هريرة أن النبي الأعظم ﵇ قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح؛ فكأنَّما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية؛ فكأنَّما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة؛ فكأنمَّا قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة؛ فكأنَّما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة؛ فكأنَّما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام؛ حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
فهذا نصٌّ على جواز الوضوء والتيمم بالقياس عليه للصلاة قبل دخول وقتها؛ لأنَّ خروج الإمام قبل الوقت ضرورة، وإنما صرَّح بذكر الحدث في (الغسل) و(التيمم) دون (الوضوء)؛ ليعلم أن الوضوء يكون سنة ويكون فرضًا، والحدث شرط في الفرض دون السنة؛ فيكون الغسل على الغسل والتيمم على التيمم عبثًا لا فائدة فيه، وأن الوضوء على الوضوء نور على نور.
(﴿فَاغْسِلُوا﴾): أمر للجمع المذكر الحاضرين، من: (غسل يغسل غَسلًا وغُسلًا)؛ بالفتح والضم كلاهما مصدران، وقيل: بالفتح مصدر، وبالضم اسم للاغتسال وللماء الذي يغسل به، وبالكسر ما يغسل به من صابون ونحوه.
وفي الشرع: الغسل: إمرار الماء على الموضع وسيلانه مع التقاطر ولو قطرة حتى لو لم يسل الماء بأن استعمله استعمال الدهن؛ لم يجز في «ظاهر الرواية» عن الإمام الأعظم، وكذا لو توضَّأ بالثلج ولم يقطر منه شيء؛ لم يجز، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز ذلك؛ لأنَّ الغسل عنده مجرَّد بلِّ المحلِّ بالماء سال أو لم يسل، يقال له: غسل فينبغي للمتوضئ بالشِّتاء أن يبلَّ أعضاءه بالماء شبه الدهن ثم يسيل الماء عليها، وعلى القولين ليس الدَّلك من مفهومه، وإنما هو مندوب، وفي «الخلاصة»: أنَّه سنة.
وقال مالك بفرضيته، فقد زاد على النصِّ وهو غير جائز، والأمر يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه؛ لأنَّ الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة، وهو إمرار الماء على الموضع وليس هو عبارة عن النية، فمن شرط النية فيه؛ فقد زاد على النصِّ، والزيادة غير مقبولة شرعًا، فما قيل: إن فيه وجوب النية ممنوع باطل.
(﴿وُجُوهَكُمْ﴾)؛ بالنصب مفعول ﴿فَاغْسِلُوا﴾ الذي هو جواب الشرط، جمع وجه أو أوجه، لغة: مأخوذ من المواجهة وهي المقابلة، وحدُّه طولًا: من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن سواء كان عليه شعر أم لا، والجبهة: اسم لما يصيب الأرض حالة السجود، والمراد بأسفل الذقن: مجتمع اللحيين، وهما عظما الحنك، ويسميان: الفكين وعليهما منابت الأسنان السفلى، وهذا الحدُّ أولى من قول بعض الشرَّاح والمتون: من قصاص شعره إلى أسفل الذقن؛ لأنَّه يعمُّ الأغمَّ، وهو ما نزل شعره حتى ضيق الجبهة؛ فلا يكفيه الغسل من القصاص. والأصلع: هو ما انحسر مقدَّم شعر رأسه، فلو مسح على صلعته؛ جاز على الأصح، كما في «الخلاصة». والأنزع: هو ما انحسر شعره من جانبي جبهته؛ فلا يجب غسلهما كما في «الدرر» و«النهر». والأقرع: هو ما ذهب شعر رأسه، وهو ظاهر؛ فليحفظ. وحدُّه عرضًا: ما بين شحمتي الأذنين؛ أي: ما لان منهما، والأُذُن؛ بالضمِّ ولك إسكانها تخفيفًا، والشحمة: معلق القُرط؛ بضم القاف: السوار الصغير المسمى: بالحَلَق؛ بفتحتين، والحدُّ (^١) يشير إلى أن الغاية غير داخلة في المغيا لا طولًا ولا عرضًا، وهو كذلك فيفترض غسل ما بين العذار والأذن من البياض؛ لدخوله في الحدِّ، وهو قول الإمام الأعظم ومحمد وبه يفتى، كما في «الدر». وقال الإمام أبو يوسف: لا يفترض غسله والخلاف في الملتحي، أمَّا الأمرد، والمرأة، والكوسج؛ فيفترض عليه الغسل اتفاقًا، كما في شروح «ملتقى الأبحر»، والعِذار؛ بكسر العين: الشعر النابت على الخد ويخرج الأذنان؛ لعدم دخولهما في الحدِّ اتفاقًا، وشمل الحد غسل المياقي جمع: موق وهو مؤخر العين، والماق مقدمها؛ لأنَّه يجتمع فيهما غالبًا الرمص، وهو ما جمد من الوسخ ولونه أصفر يخرج من العين حين رطوبتها، فيجب إزالته وإيصال الماء تحته إن كان يبقى حال تغميض العين، فلو في داخل العين بحيث لو غمَّض عينيه يبقى داخلًا؛ فلا يجب للحرج، كذا في «البحر». وشمل الحدُّ ما يظهر من الشفتين عند الانضمام؛ لأنَّه تبع للوجه، فيفترض غسلهما على المعتمد، وقيل: لا؛ لأنَّهما تبع للفم، والمراد بالانضمام: هو الطبيعي المعتاد لا بشدَّة وتكلُّف، وكذا لو غمَّض عينيه شديدًا؛ لا يجوز، لكن ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم الجواز، كما في شرح «نظم الكنز»؛ للحرج والضَّرر؛ لأنَّ العين شحم لا يقبل الماء ومن تكلَّف من الصحابة فيه كُفَّ بصره في آخر عمره كابن عباس وابن عمر ﵄، كما في «المبسوط»، حتَّى لو اكتحل بكحلٍ نجسٍ؛ لا يجب غسله، كما صرح به في «حواشي المراقي». ولا يجب غسل ما تحت ونيم ذباب، وبرغوث، وحنَّاء، ودرن، ودهن، وتراب، وطين؛ لأنَّ الماء يخرقه وللحرج، ولا أصول اللحية والشارب إذا كانا كثيفين أما إذا بدت البشرة فيهما؛ فيجب غسلها، فالمسترسل من الشعر عن دائرة الوجه لا يجب غسله ولا مسحه اتفاقًا عندنا، كما في «النهر الفائق»، نعم يسنُّ مسحه كما في «المنية»؛ بل يسن غسله كما في «الحلية». ويجب غسل جلد السمك، والخبز الممضوغ الجاف، والدرن اليابس في الأنف، بخلاف الرطب، كما في «القهستاني»، وكذا يجب غسل الشمع والشحم، كما في «الإمداد»، وما ذكرناه من الحد يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية؛ لأنَّهما لا يواجه بهما، فمن قال: بوجوبهما في الوضوء؛ فقد زاد على النصِّ، وهو غير جائز، نعم يسن غسلهما ويفترض في الغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس؛ لأنَّهما من تمام البدن، كما في المتون والشروح. (﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾)؛ بالنصب على العطف على (وجوهكم)؛ أي: اغسلوا أيديكم، جمع: يد، وأصلها: يدي على وزن: (فعْل)؛ بسكون العين، وجمع الأيدي: أيادي (^٢)، مثل (أكرع وأكارع) وهي من أطراف الأصابع إلى المنكب، وفي هذا وغيره مقابلة الجمع بالجمع وهي تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كقولهم: ركب القوم دوابهم، فمعناه: وجوب غسل يد واحدة من كل مكلف. وأجيب: بأن غسل يد واحدة ثابت في النص، واليد الأخرى ثابتة إمَّا بدلالة النص، أو بفعل الرسول ﵇ المتواتر. (﴿إِلَى المَرَافِقِ﴾)، جمع: مِرْفَق؛ بكسر الميم وفتح الفاء وعلى العكس: مجتمع طرف الساعد والعضد، والأول اسم الآلة والثاني اسم المكان، ويجوز فتح الميم والفاء على أن يكون مصدرًا أو اسم مكان على الأصل. واختلف هل الغاية داخلة في المغيَّا أم خارجة عنها؟ فقال الإمام الأعظم، وأبو يوسف، ومحمد، والحسن، والشافعي، وأحمد، ومالك في رواية: أن الغاية داخلة؛ فيفترض غسل المرفقين والكعبين، وقال الإمام زفر، وداود، ومالك في رواية أشهب: أن الغاية غير داخلة؛ فلا يفترض غسلهما، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، فالليل غير داخل في الصوم بالإجماع، فكذا هذا. قلنا: إن الغاية إذا كانت لإسقاط ما وراءها تدخل، ومتى كانت لمد الحكم إليها؛ لا تدخل، وهذه الغاية لإسقاط ما وراءها؛ لأنَّه لو اقتصر على وأيديكم وأرجلكم؛ لتناول إلى الإبط وإلى الفخذ؛ لأنَّ اليد اسم لهذه الجملة من رؤوس الأصابع إلى الإبط، فلمَّا قال: ﴿إِلَى المَرَافِقِ﴾؛ خرج عن أن يكون المرفق والكعبان داخلين تحت السقوط؛ لأنَّ الحد لا يدخل في المحدود فبقيت الغاية داخلة بمطلق الاسم، فبقي الغسل ثابتًا في اليد مع المرفق والرجل مع الكعب، والغاية في الصوم؛ لمدِّ الحكم، فيتناول إمساك ساعة، فإن من حلف لا يصوم؛ يحنث بصوم ساعة، فلم تدخل. قال في «البحر»: وهذا الفرق غير مطَّرد لانتقاضه بالغاية في اليمين، فإنَّ ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم عدم الدخول؛ كما لو حلف لا يكلمه إلى عشرة أيام؛ لا يدخل العاشر مع تناول العدد، كما في «جامع الفصولين»، وكذلك رأس السمكة في قوله: لا آكل السمكة إلى رأسها؛ فإنَّها لا تدخل مع التناول المذكور، انتهى. وأجاب في «فتح القدير»: بأن الكلام هنا على مقتضى اللغة والأيمان مبنية على العرف عندنا، وجاز أن يخالف العرف اللغة، اهـ؛ فتأمل. وقيل: إن (إلى) بمعنى: مع؛ أي: مع المرافق، ورُدَّ بأنهم قالوا: اليد من رؤوس الأصابع إلى المنكب، فإذا كانت (إلى) بمعنى: مع؛ وجب غسل اليد إلى المنكب؛ لأنَّه كأغسل القميص وكمَّه، وغايته أنَّه كإفراد فرد من العام، إذ هو تنصيص على بعض متعلِّق الحكم بتعلُّق عين ذلك الحكم، وذلك لا يخرج غيره، ولو أخرج؛ كان بمفهوم اللقب، وهو ليس بحجة. وقال العلَّامة جار الله الزمخشري والعلَّامة التفتازاني: إنَّ (إلى) تفيد الغاية مطلقًا، فأمَّا دخولها في الحكم وخروجها عنه؛ فأمر يدور مع الدليل، فما فيه دليل الخروج قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]، وما فيه دليل الدخول آية «الإسراء» للعلم بأنه لا يسرى به إلى المسجد الأقصى من غير أن يدخله، وما نحن فيه لا دليل على أحد الأمرين، فقالوا: بدخولهما احتياطًا؛ لأنَّهم لم يروا عنه ﵇ قطُّ عدم غسلهما، فلا يفيد الافتراض؛ لأنَّ الفعل لا يفيده. قال في «البحر»: والحقُّ أنَّ شيئًا مما ذكروه لا يدلُّ على الافتراض، فالأولى الاستدلال بالإجماع على فرضيَّتهما، قال الشافعي في «الأم»: لا نعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، قال ابن حجر في «الفتح»: فعلى هذا فأهل الظاهر، ومالك، والإمام زفر محجوجون بالإجماع، انتهى. وردَّه في «النهر الفائق»: بأن قوله: (لا أعلم مخالفًا) ليس حكاية منه؛ للإجماع الذي يكون غيره محجوجًا به، فقد قال الإمام اللامشي في «أصوله»: لا خلاف في أن جميع المجتهدين لو اجتمعوا على حكم واحد ووجد الرضا من الكل نصًا؛ كان ذلك إجماعًا، أمَّا إذا نصَّ البعض وسكت الباقون -لا عن خوف بعد اشتهار القول- فعامة أهل السنة على أن ذلك يكون إجماعًا، وقال الشافعي: لا أقول إنه إجماع، ولكن أقول لا أعلم فيه خلافًا، وقال أبو هاشم من المعتزلة: لا يكون إجماعًا ويكون حجَّة، وقيل: لا يكون حجَّة أيضًا، انتهى، ولهذا لم يحتج في «عمدة القاري» بالإجماع. وقال في «شرح المنية»: إنَّ غسل المرفقين والكعبين ليس بفرض قطعي، بل هو فرض عملي لا يكفَّر جاحده، فقال في «النهر» أيضًا: ولهذا لا يحتاج إلى دعوى الإجماع؛ لأنَّ الفروض العملية لا يحتاج في إثباتها إلى القاطع، فيحتاج إلى الإجماع، اهـ. وقال في «عمدة القاري»: والدليل على دخولهما في الغسل ما في «مسلم» من _________ (^١) في الأصل: (الجد). (^٢) في الأصل (أياد).
(﴿وُجُوهَكُمْ﴾)؛ بالنصب مفعول ﴿فَاغْسِلُوا﴾ الذي هو جواب الشرط، جمع وجه أو أوجه، لغة: مأخوذ من المواجهة وهي المقابلة، وحدُّه طولًا: من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن سواء كان عليه شعر أم لا، والجبهة: اسم لما يصيب الأرض حالة السجود، والمراد بأسفل الذقن: مجتمع اللحيين، وهما عظما الحنك، ويسميان: الفكين وعليهما منابت الأسنان السفلى، وهذا الحدُّ أولى من قول بعض الشرَّاح والمتون: من قصاص شعره إلى أسفل الذقن؛ لأنَّه يعمُّ الأغمَّ، وهو ما نزل شعره حتى ضيق الجبهة؛ فلا يكفيه الغسل من القصاص. والأصلع: هو ما انحسر مقدَّم شعر رأسه، فلو مسح على صلعته؛ جاز على الأصح، كما في «الخلاصة». والأنزع: هو ما انحسر شعره من جانبي جبهته؛ فلا يجب غسلهما كما في «الدرر» و«النهر». والأقرع: هو ما ذهب شعر رأسه، وهو ظاهر؛ فليحفظ. وحدُّه عرضًا: ما بين شحمتي الأذنين؛ أي: ما لان منهما، والأُذُن؛ بالضمِّ ولك إسكانها تخفيفًا، والشحمة: معلق القُرط؛ بضم القاف: السوار الصغير المسمى: بالحَلَق؛ بفتحتين، والحدُّ (^١) يشير إلى أن الغاية غير داخلة في المغيا لا طولًا ولا عرضًا، وهو كذلك فيفترض غسل ما بين العذار والأذن من البياض؛ لدخوله في الحدِّ، وهو قول الإمام الأعظم ومحمد وبه يفتى، كما في «الدر». وقال الإمام أبو يوسف: لا يفترض غسله والخلاف في الملتحي، أمَّا الأمرد، والمرأة، والكوسج؛ فيفترض عليه الغسل اتفاقًا، كما في شروح «ملتقى الأبحر»، والعِذار؛ بكسر العين: الشعر النابت على الخد ويخرج الأذنان؛ لعدم دخولهما في الحدِّ اتفاقًا، وشمل الحد غسل المياقي جمع: موق وهو مؤخر العين، والماق مقدمها؛ لأنَّه يجتمع فيهما غالبًا الرمص، وهو ما جمد من الوسخ ولونه أصفر يخرج من العين حين رطوبتها، فيجب إزالته وإيصال الماء تحته إن كان يبقى حال تغميض العين، فلو في داخل العين بحيث لو غمَّض عينيه يبقى داخلًا؛ فلا يجب للحرج، كذا في «البحر». وشمل الحدُّ ما يظهر من الشفتين عند الانضمام؛ لأنَّه تبع للوجه، فيفترض غسلهما على المعتمد، وقيل: لا؛ لأنَّهما تبع للفم، والمراد بالانضمام: هو الطبيعي المعتاد لا بشدَّة وتكلُّف، وكذا لو غمَّض عينيه شديدًا؛ لا يجوز، لكن ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم الجواز، كما في شرح «نظم الكنز»؛ للحرج والضَّرر؛ لأنَّ العين شحم لا يقبل الماء ومن تكلَّف من الصحابة فيه كُفَّ بصره في آخر عمره كابن عباس وابن عمر ﵄، كما في «المبسوط»، حتَّى لو اكتحل بكحلٍ نجسٍ؛ لا يجب غسله، كما صرح به في «حواشي المراقي». ولا يجب غسل ما تحت ونيم ذباب، وبرغوث، وحنَّاء، ودرن، ودهن، وتراب، وطين؛ لأنَّ الماء يخرقه وللحرج، ولا أصول اللحية والشارب إذا كانا كثيفين أما إذا بدت البشرة فيهما؛ فيجب غسلها، فالمسترسل من الشعر عن دائرة الوجه لا يجب غسله ولا مسحه اتفاقًا عندنا، كما في «النهر الفائق»، نعم يسنُّ مسحه كما في «المنية»؛ بل يسن غسله كما في «الحلية». ويجب غسل جلد السمك، والخبز الممضوغ الجاف، والدرن اليابس في الأنف، بخلاف الرطب، كما في «القهستاني»، وكذا يجب غسل الشمع والشحم، كما في «الإمداد»، وما ذكرناه من الحد يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية؛ لأنَّهما لا يواجه بهما، فمن قال: بوجوبهما في الوضوء؛ فقد زاد على النصِّ، وهو غير جائز، نعم يسن غسلهما ويفترض في الغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس؛ لأنَّهما من تمام البدن، كما في المتون والشروح. (﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾)؛ بالنصب على العطف على (وجوهكم)؛ أي: اغسلوا أيديكم، جمع: يد، وأصلها: يدي على وزن: (فعْل)؛ بسكون العين، وجمع الأيدي: أيادي (^٢)، مثل (أكرع وأكارع) وهي من أطراف الأصابع إلى المنكب، وفي هذا وغيره مقابلة الجمع بالجمع وهي تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كقولهم: ركب القوم دوابهم، فمعناه: وجوب غسل يد واحدة من كل مكلف. وأجيب: بأن غسل يد واحدة ثابت في النص، واليد الأخرى ثابتة إمَّا بدلالة النص، أو بفعل الرسول ﵇ المتواتر. (﴿إِلَى المَرَافِقِ﴾)، جمع: مِرْفَق؛ بكسر الميم وفتح الفاء وعلى العكس: مجتمع طرف الساعد والعضد، والأول اسم الآلة والثاني اسم المكان، ويجوز فتح الميم والفاء على أن يكون مصدرًا أو اسم مكان على الأصل. واختلف هل الغاية داخلة في المغيَّا أم خارجة عنها؟ فقال الإمام الأعظم، وأبو يوسف، ومحمد، والحسن، والشافعي، وأحمد، ومالك في رواية: أن الغاية داخلة؛ فيفترض غسل المرفقين والكعبين، وقال الإمام زفر، وداود، ومالك في رواية أشهب: أن الغاية غير داخلة؛ فلا يفترض غسلهما، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، فالليل غير داخل في الصوم بالإجماع، فكذا هذا. قلنا: إن الغاية إذا كانت لإسقاط ما وراءها تدخل، ومتى كانت لمد الحكم إليها؛ لا تدخل، وهذه الغاية لإسقاط ما وراءها؛ لأنَّه لو اقتصر على وأيديكم وأرجلكم؛ لتناول إلى الإبط وإلى الفخذ؛ لأنَّ اليد اسم لهذه الجملة من رؤوس الأصابع إلى الإبط، فلمَّا قال: ﴿إِلَى المَرَافِقِ﴾؛ خرج عن أن يكون المرفق والكعبان داخلين تحت السقوط؛ لأنَّ الحد لا يدخل في المحدود فبقيت الغاية داخلة بمطلق الاسم، فبقي الغسل ثابتًا في اليد مع المرفق والرجل مع الكعب، والغاية في الصوم؛ لمدِّ الحكم، فيتناول إمساك ساعة، فإن من حلف لا يصوم؛ يحنث بصوم ساعة، فلم تدخل. قال في «البحر»: وهذا الفرق غير مطَّرد لانتقاضه بالغاية في اليمين، فإنَّ ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم عدم الدخول؛ كما لو حلف لا يكلمه إلى عشرة أيام؛ لا يدخل العاشر مع تناول العدد، كما في «جامع الفصولين»، وكذلك رأس السمكة في قوله: لا آكل السمكة إلى رأسها؛ فإنَّها لا تدخل مع التناول المذكور، انتهى. وأجاب في «فتح القدير»: بأن الكلام هنا على مقتضى اللغة والأيمان مبنية على العرف عندنا، وجاز أن يخالف العرف اللغة، اهـ؛ فتأمل. وقيل: إن (إلى) بمعنى: مع؛ أي: مع المرافق، ورُدَّ بأنهم قالوا: اليد من رؤوس الأصابع إلى المنكب، فإذا كانت (إلى) بمعنى: مع؛ وجب غسل اليد إلى المنكب؛ لأنَّه كأغسل القميص وكمَّه، وغايته أنَّه كإفراد فرد من العام، إذ هو تنصيص على بعض متعلِّق الحكم بتعلُّق عين ذلك الحكم، وذلك لا يخرج غيره، ولو أخرج؛ كان بمفهوم اللقب، وهو ليس بحجة. وقال العلَّامة جار الله الزمخشري والعلَّامة التفتازاني: إنَّ (إلى) تفيد الغاية مطلقًا، فأمَّا دخولها في الحكم وخروجها عنه؛ فأمر يدور مع الدليل، فما فيه دليل الخروج قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]، وما فيه دليل الدخول آية «الإسراء» للعلم بأنه لا يسرى به إلى المسجد الأقصى من غير أن يدخله، وما نحن فيه لا دليل على أحد الأمرين، فقالوا: بدخولهما احتياطًا؛ لأنَّهم لم يروا عنه ﵇ قطُّ عدم غسلهما، فلا يفيد الافتراض؛ لأنَّ الفعل لا يفيده. قال في «البحر»: والحقُّ أنَّ شيئًا مما ذكروه لا يدلُّ على الافتراض، فالأولى الاستدلال بالإجماع على فرضيَّتهما، قال الشافعي في «الأم»: لا نعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، قال ابن حجر في «الفتح»: فعلى هذا فأهل الظاهر، ومالك، والإمام زفر محجوجون بالإجماع، انتهى. وردَّه في «النهر الفائق»: بأن قوله: (لا أعلم مخالفًا) ليس حكاية منه؛ للإجماع الذي يكون غيره محجوجًا به، فقد قال الإمام اللامشي في «أصوله»: لا خلاف في أن جميع المجتهدين لو اجتمعوا على حكم واحد ووجد الرضا من الكل نصًا؛ كان ذلك إجماعًا، أمَّا إذا نصَّ البعض وسكت الباقون -لا عن خوف بعد اشتهار القول- فعامة أهل السنة على أن ذلك يكون إجماعًا، وقال الشافعي: لا أقول إنه إجماع، ولكن أقول لا أعلم فيه خلافًا، وقال أبو هاشم من المعتزلة: لا يكون إجماعًا ويكون حجَّة، وقيل: لا يكون حجَّة أيضًا، انتهى، ولهذا لم يحتج في «عمدة القاري» بالإجماع. وقال في «شرح المنية»: إنَّ غسل المرفقين والكعبين ليس بفرض قطعي، بل هو فرض عملي لا يكفَّر جاحده، فقال في «النهر» أيضًا: ولهذا لا يحتاج إلى دعوى الإجماع؛ لأنَّ الفروض العملية لا يحتاج في إثباتها إلى القاطع، فيحتاج إلى الإجماع، اهـ. وقال في «عمدة القاري»: والدليل على دخولهما في الغسل ما في «مسلم» من _________ (^١) في الأصل: (الجد). (^٢) في الأصل (أياد).
1 / 45