والخطبة التالية ألقاها دفاعا عن نفسه وكان قد اتهم بجملة تهم وكان يخشى أن يحكم عليه بالإعدام، قال:
لقد كنت أخاف وأرتعد من حركات الشعب الحماسية والخالية من النظام عندما رأيتها قد تعدت حدود الضرورة، ولكيلا تموت هذه الحركات موتا أبديا ثم لكي نتجنب ضرورة عودتها اقترحت أن يدير الشعب في هذه الحركات رجل عاقل عادل مشهور بتعلقه للحرية ويجعل الحرية العمومية غايتها العظمى. ولو أن الناس استطاعوا أن يقدروا الحكمة في هذا المقترح ولو أنهم اصطنعوه برمته لاكتسحوا يوم فتح سجن الباستيل خمسمائة رأس من المتآمرين، ولو أنا فعلنا هذا لاستقرت الأمور؛ ولهذا السبب عينه اقترحت جملة مرار أن نعين شخصا ونمنحه السلطة المطلقة، والدليل على أني أردت أن أقيده للمصلحة العامة هو أني اقترحت في أن يكون في طرف قدمه خرطوشة ولا يكون له من عمل سوى إطاحة رءوس الخونة.
لقد كان هذا رأيي وقد أوضحته لأخصائي ونشرته في جميع كتاباتي، وقد مهرت هذه الأقوال بتوقيعي ولست أستحي من ذلك، وإذا كنتم أنتم لا تفهمون فتعسا لكم!
إننا نعيش في عصر ولما تنته فيه أيام القلق والاضطراب، وها نحن أولاء بإزاء ماية ألف وطني ذبحوا لأنكم لم تستمعوا إلى صوتي، وثم ماية ألف أخرى سيقاسون الآلام ويوشك أن يحل بهم الدمار. واذكروا أنه إذا تردد الشعب فلن يكون ثم طريق آخر للفوضى.
لقد نشرت هذه الآراء بين الجمهور فإذا كانت مخطرة فليفندها المستنيرون بما لديهم من الأدلة. أما عن شخصي فإني أصرح بأني أكون أول من يسير على رأيهم وأقدم لهم بذلك البرهان القوي على أني أرغب في السلام والنظام وسيادة القوانين عندما أقتنع بعدالتهم.
هل تتهمونني بالطمع؟ إني لا أنزل للدفاع عن نفسي، افحصوا سلوكي واحكموا على ماضي، فإني لو أردت أن أصمت وأتاجر بهذا الصمت لصرت من ذوي الحظوة في البلاط، ثم ماذا كان حظي؟ لقد دفنت نفسي في المطبقات وتعرضت لجميع الأخطار وقد علق فوق رأسي سيف ماية ألف سفاك ووعظت الناس بالحق ورأسي على النطع، فليتحد أولئك الذين يخشون المستبدين معي ومع جميع الوطنيين الصادقين وعلينا أن نحث الجمعية الوطنية على التعجيل في إقرار القوانين التي تضمن للناس السعادة، وبعد ذلك أذهب فرحا إلى المشنقة. (9) خطبة للامارتين
كان لامارتين (1790-1869) شاعرا وأديبا وسياسيا فرنسيا، وكان خطيب الجمهورية ينافح عنها. ولما حدثت ثورة سنة 1848 كان هو من العوامل التي أفادت في منع الغلو فسار بالناس في طريق وسط وكبح جماح المتطرفين والملوكيين. وفي الخطبة التالية يفسر معنى الثورة الفرنسية وما جناه الناس منها، قال:
فما هي إذن الثورة الفرنسية؟ هل هي كما يقول عباد الأزمنة الماضية فتنة أمة مضطربة لغير سبب تهدم في تشنجاتها الجنونية كنيستها وحكومتها الملوكية وطبقاتها الاجتماعية وقوميتها حتى لقد مزقت أيضا خريطة أوروبا؟ كلا، لم تكن الثورة الفرنسية فتنة منكودة كما يزعمون لأن هبوب الفتن إلى خمود عاجل وهي لا تترك وراءها سوى الجثث والدمار، وليس من ينكر أن الثورة قد خلفت وراءها دمارا وآلات للإعدام، وهذه لها بمثابة وخز الضمير للإنسان، ولكنها قد خلفت أيضا مذهبا وخلفت روحا ستبقى وتعيش ما دام في الإنسان ذهن يفكر.
ولسنا نقول هذا تشيعا لشيعة ولسنا نقصد إلى تأليف شيعة، إنما نكون رأيا وفي الرأي القوة والشرف والمناعة، فهل نحن لاجئون إلى العنف والضغط والقتل في بدء جهادنا؟ كلا، وعلينا أن نشكر آباءنا لذلك؛ لأنهم قد خلفوا لنا الحرية التي لا تفتقر إلى سلاح لأن سلاحها سلاح السلم تنشأ وترقى دون حاجة إلى الغضب أو الشطط، ولهذا سنحوز النصر، ثقوا بذلك. وإذا سألتموني عن القوة الأدبية التي سترغم الحكومة على النزول على إرادة الأمة لأجبتكم إنها سيادة الأفكار وملوكية الذهن وجمهورية الذكاء، أو أقول بكلمة واحدة إنها الرأي؛ هذه القوة الحديثة التي لم يكن القدماء يعرفون اسمها.
أيها السادة، لقد ولد الرأي العام يوم اخترع غوتنبرج الذي لقب بصانع العالم الجديد بواسطة الطباعة تلك الصلة التي لا نهاية لها بين الأفكار والعقول الإنسانية. وقوة الرأي هذه التي لا نكاد نفهمها ليست تحتاج في بسط سلطانها إلى سمة الانتقام أو سيف العدل أو إلى آلة الإعدام؛ لأن في يدها ميزان الأفكار والمؤسسات والذهن البشري، ففي إحدى كفتي ميزانها ستعيش مدة طويلة خرافات العقل البشري والأهواء التي تدعى لها الفوائد وحقوق الملوك المقدسة والتمايز في الحقوق بين الطبقات وعداء الدول وروح الفتح الحربي واتحاد الدين والحكومة اتحادا فاسدا والرقابة على الأفكار وإسكات زعماء الشعب وتفشي الجهل بين سواد الأمة والعمل في الحط من كرامتهم، أما في الكفة الأخرى فإننا سنضع أخف ما خلقه الله وأقله مادة؛ نعني النور، ذلك النور الذي تفجر من الثورة الفرنسية عند ختام القرن الماضي ولا شك أنه تفجر من بركان هو بركان الحق. (10) خطبة لفكتور هيجو
صفحة غير معروفة