ولكن نفى عني الرجال جراءتي ... عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد
ويوم حبست النفس عند عراكه ... حفاظًا على عوراته والتهدد
على موطن يخشى الفتى عنده الردى ... متى تعترك فيه الفرائص ترعد
وأصفر مضبوح نظرت جواره ... على النار واستودعته كف مجمد
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى ... بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأحبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد
وما لام نفسي مثلها لي لائم ... ولا سد فقري مثل ما ملكت يدي
تحليل القصيدة: ١ - طرفة بن العبد البكري شاعر جاهلي مشهور، نشأ يتيمًا في كفالة أعمامه، يؤثر اللهو والدعة والبطالة ويدمن الخمر ويهجو الناس، حتى الملك عمرو بن هند الذي أضمر له الشر وأرسله لعامله بالبحرين فقتله ولم يتجاوز السادسة والعشرين. وتقول أخته الخرنق في رثائه:
عددنا له ستا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدا فخما
وكان طرفة ملتهب المشاعر والعواطف حاد التفكير واللسان متأجج الشاعرية نظم الشعر يصور فيه حياته وآماله وبطالته يصف فيجيد الوصف ويأتي بالحكمة العالية والفكرة الرائعة "وهو أجود الجاهليين طويلة كما يقول ابن قتيلة وشعره قليل بأيدي الرواة.
٢ - ومطلع هذه المعلقة الرائعة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقد عد بها الشاعر من فحول الشعراء الجاهليين ومشهوريهم، واستحق من أجلها أن يضعه أبو عبيدة في الطبقة الثانية منه وابن سلام في الطبقة الرابعة وأن يذهب بعض الشعراء والنقاد إلى أنه أشعر الجاهليين. وهي أطول المعلقات، أبياتها خمسة أو عشرة ومائة بيت، وتمتاز بكثرة معانيها وجزالة أسلوبها نظمها طرفة بعد عودته إلى أرض قومه إثر تنقله في الأحياء حين كان مغاضبًا لقومه وعشيرته وقبل أن يتصل بملوك الحيرة وينادمهم.
ويبدو من روح المعلقة ولهجتها أن الشاعر نظمها عتابًا لابن عمه، ويبدو أيضًا أن السبب في عتابه له أن أخاه "معبدا" كان له إبل يرعاها هو وأخوه طرفة فأغبها طرفة في المرعى حتى دخلت مرعى ابن عمه فحجزها، فلام معبد أخاه وألقى عليه عبء طلبها واستردادها من ابن عمه فذهب طرفة إليه فلم يجد كلامه معه فعاد ثائرًا غاضبًا، ونظم قصيدته يعاتب فيها عبد عمرو عتابًا شديدًا قاسيًا مما نقرؤه في المعلقة، في قوله:
فمالي أراني وابن عمي مالكا ... متى أدن منه ينأ عني ويبعد
وأيأسني من كل خير طلبته ... كأنا وضعناه على رمس ملحد
على غير شيء قلته غير أنني ... نشدت فلم أغفل حمولة معبد
وإن أدع للجلى أكن من حماتها ... وإن تأتك الأعداء بالجهد أجهد
فلو كان مولاي امرأ هو غيره ... لفرج كربي أو لأنظرني غدي
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مفتدي
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وعادني ... بنون كرام سادة لمسود
ولما سمع عبد عمرو بن مرثد معلقة طرفة أرسل إليه، فقال له أما الولد فالله يعطيكه وأما المال فلا تبرح حتى تكون من أوسطنا فيه وأمر سبعة من أبنائه وثلاثة من بني أبنائه أن يعطوه عشرا عشرا من الإبل ففعلوا.
٤ - ويذكر بعض الباحثين من المستشرقين أن المعلقة لم توضع مرة واحدة، كقوله:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب ياابنة معبد
وما يليه من أبيات قالها وهو في سجن البحرين قبيل موته وهذا خطأ في البحث فلم يقل طرفة هذه الأبيات وهو في سجن البحرين بل نظمها ونظم القصيدة كلها مرة واحدة وهو صحيح مقيم في أرض قومه والقصيدة قطعة واحدة من الشعر الحي والتصوير الرائع والديباجة الساحرة والوصف الصادق.
1 / 69