الشناعة على من رد أحاديث الشفاعة

عبد الكريم الحميد ت. غير معلوم

الشناعة على من رد أحاديث الشفاعة

الناشر

طُبع على نفقة بعض المحسنين

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٢١ هـ

مكان النشر

جزاهم الله خيرا

تصانيف

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين. إطلعت على كتاب غير مَبْدوء ببسم الله ولا بالحمد لله لمصطفى محمود وهو كاتب مصري تكلم في كتابه عن مسألة هي من أعظم مسائل التوحيد وهي (الشفاعة) وقد أساء بليغ الإساءة وأخطأ فاحش الخطأ حيث تكلم فيما لايُحسن الكلام فيه. وقد تعوّدنا في هذا الزمان السوء على أجناس هذا الكاتب وأمثاله ممن يخوضون في مسائل الدين بلا معرفة ويقولون على الله وعلى رسوله بلا علم وهو من عظائم الذنوب. والحقيقة أن الشيء إذا جاء في أوَانه وَحينه أنه لايُسْتغرب. وكذلك ما ابْتليتْ بهم الأمة في آخر عمرها ونهاية أجلها ممن أخبرهم بهم النبي ﷺ من الرؤوس الجهال الذين يقيسون الأمور بآرائهم. إن شؤم هذا الكتاب متوفر فكما أنه لم يُبدأ بذكر الله فكذلك

1 / 3

فهو مُقَبَّحٌ أيضًا بصورة مؤلفة في الغلاف. وفي ثنايا الكتاب ثماني صور له وصور أخرى لنساء في الغلاف الثاني من الداخل. يقول في تقديمه: وأرى أن من حق كل قاريء أن يختلف معي وأن يفهم القضية على طريقته فقد أرادنا الله أحرارًا وأرادنا أن نتدبر آياته ونتفهم قرآنه كل على قدر طاقته. (١) الجواب: هذا كلام جاهل ضال حيث يرى أن من حق كل قاريء أن يختلف معه وأن يفهم القضية على طريقته. ولو كان عالمًا مهتديًا مُسْتيْقنًا أن مايقوله حقًا لقال: وأرى أن مِنْ حق كل قاريء ألا يختلف معي بهذا الحق وأن يفهم القضايا الدينية كما أراد الله وأراد رسوله .. قال تعالى: ﴿ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾ فهذا ذم للإختلاف في شأن الحق ومدح لأهل الرحمة وهم المتفقون في الحق بلا خلاف ولا اختلاف. وقال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا﴾. والإجتماع سببه الإتفاق كما أن التفرق سببه الإختلاف لكن المراد بالإجتماع الذي سببه الإعتصام بالكتاب والسنة. أما قوله: فقد أردنا الله أحرارًا بعد جعله الإختلاف معه من حق كل قارئ فهذا جهل أيضًا فإن هذه الحرية منوطة بالعبودية

(١) ص ٧.

1 / 4

للرب ﷿ مُقَيّدة باتباع رسوله ﷺ. وكلما كان الناس أقْوَم بهذين الأصلين كلما عظم اتفاقهم وقلّ اختلافهم. وأصْدق مثال لهذا حال الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم لما كانوا في الغاية من تحقيق ذلك كانوا أبْعد الأمة عن الإختلاف في الحق. وهم خير القرون. والخلاصة أن مسألة الشفاعة الحق فيها واحد وليست من المسائل القابلة للإختلاف. كما أن وظيفة العالم أن يقرر الحق ويبطل الباطل ليست وظيفته أن يفتح باب الإختلاف. وأيضًا ليست مسألة الشفاعة من المسائل الإجتهادية وليس هذا الكاتب وأمثاله أهل للتصدر والكلام في المسائل الإجتهادية. والسلف الصالح من أهل السنة والجماعة قَدْ أرَاحونا من العناء في مسألة الشفاعة وغيرها. وأكثر ضلال المتأخرين وتخبيطهم في مسائل الدين إنما جاء من اغترارهم بعقولهم وفهومهم واحتقارهم للسلف وظنهم أنهم سوف يأتون بمالم تستطعه الأوائل فاستقلوا بعقول سخيفة وفهوم قاصرة نتاجها البضائع الخاسرة.

1 / 5

يقول هذا الكاتب: وما ترويه الأحاديث عن أن محمدًا ﵊ سوف يُخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله ولوْ زنا ولو سرق ولو زنا ولو سرق رغم أنف أبي ذر .. هكذا يقول الحديث وهو مايخالف صريح القرآن فالقرآن يقول في محكم آياته. ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا﴾ والمنافقون هم الذين يقولون لا إله إلا الله في كل مناسبة وتنطق ألسنتهم بما يخالف سرائرهم وهم في الدرك الأسفل من النار ولن يجدوا لهم نصيرًا بصريح القرآن. (١) الجواب: الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ مثل هذا الحديث يستحيل أن تكون مُخالفة لصريح القرآن لكن أُتِييَ هذا الكاتب من سوء فهمه وقلّة علمه .. نعم يأتي في الحديث ماليس في القرآن بلا مخالفة ولاتعارض. وهذا كثير. وقد وردتْ أحاديث صحيحة في أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا

(١) ص ١٦،١٧.

1 / 6

الله خلاف مايعتقده الخوارج والمعتزلة. وقد قال ﷺ: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) (١). وأهل الكبائر يقولون: لا إله إلا الله وكثير منهم يدخلون النار فيخرجون بشفاعته ﷺ ليسوا كالكفار الذين قال الله عنهم: ﴿فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾. فأهل السنة يُقرون بهذه الشفاعة والخوارج والمعتزلة ينكرونها فقد أخبر النبي ﷺ أنه (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). (٢) وتواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير مايزن شعيرة ومايزن خردلة ومايزن ذرة. وتواترت بأن كثيرًا ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها وأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم. فهؤلاء يدخلون النار ويخرجون منها. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته

(١) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم. (٢) جزء من حديث أنس المتفق عليه.

1 / 7

وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لايشرك بالله شيئًا). أما المنافقون فكَوْنهم في الدرك الأسفل من النار وهم يقولون: لا إله إلا الله فليس مخالف للأحاديث الصحيحة. فهؤلاء يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم فهم كاذبون بقولها. قال تعالى عنهم: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا ومايخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون﴾ والقرآن مملوء من ذكر المنافقين وكذبهم بخلاف الموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله ويردون القيامة بذنوب لم يتوبوا منها فهؤلاء لو دخلوا النار بذنوبهم لابكفرهم فإنهم يعذبون فيها بقدر مااقترفوه من الذنوب ثم يخرجون. فَفَرْقٌ بين مُوَحّد يقول لا إله إلا الله وهو صاحب كبائر وبين من يقول الله عنهم: ﴿إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون﴾ فكذبهم في قولهم لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وجعلهم في زمرة الكفار بل أخبثهم كفرًا. فالموحّد في قلبه إيمان هو يعمل على مقتضاه بخلاف المنافق الكاذب الذي يقول بلسانه ماليس في قلبه.

1 / 8

ثم قال مصطفى محمود: والمعنى المستخلص هو أن قول لا إله إلا الله باللسان مرة أوْمرات أوطول العمر لن يغني شيئًا ولن يحقق لصاحبه نجاة ولا فلاحًا إلا إذا صادق القلب وصادقت الجوارح وأكّدت الأفعال على هذا القول وهو مالم يرد له ذكر في الحديث. (١) الجواب: هذه الكلمة العظيمة جاءت مقيّدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها لا يعرف الصدق والإخلاص المراد منها. وأكثر من يقولها تقليدًا وعادة ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث (سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) لكن لايعني هذا إنكار ماصَحّ عن رسول الله ﷺ. فالذي في حديث أبي ذر ﵁ ذكر الزنا والسرقة وهذه كبائر لاتُحبط الإيمان بالكلية لكنها تضعفه وليس معنى الحديث أن الإنسان يقول لا إله إلا الله ولا يصادق قلبه

(١) ص ١٧.

1 / 9

وجوارحه وتؤكد أفعاله فهذا المنافق. أما الذي ذُكر في الحديث فمسلم مصدق قلبه وجوارحه ومؤكدة أفعاله يعني التوحيد لكنه يأتي بعض الكبائر فليس كالمنافق الكاذب في قول لا إله إلا الله. فقد تبيّن أن النطق بالشهادة من غير معرفة لمعناها ولايقين ولاعمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع. وهذا لا يوجب التكذيب بأحاديث الشفاعة الثابتة لأنها للموحدين الذين يعرفون معناها ويعملون بمقتضاها ولكن لهم ذنوب أوْجبت لهم دخول النار. ومما جاء في بيان كلمة لا إله إلا الله في (قرّة عيون الموحدين) قوله: وأنت تجد أكثر من يقول لا إله إلا الله ويَدَّعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته بدعوة من لايضر ولاينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم ويحبهم ويُوَاليهم ويخافهم ويرجوهم ويُنكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وتَرْك عبادة ماسِواه ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة ويُعادي من عمل به وأحَبّه وأنكر الشرك وأبغضه. وبعضهم لا يَعدّ التوحيد علمًا ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته والله المستعان ..

1 / 10

وشهادة أن لا إله إلا الله ذكر العلماء لها شروط لابد من وجودها فلابد من (العلم) بحقيقة معناها علمًا ينافي الجهل بخلاف من يقولها وهو لايعرف معناها. ولابد من (اليقين) المنافي للشك فيما دَلّت عليه من التوحيد. ولابد من (الإخلاص) المنافي للشرك. فإن كثيرًا من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة ويُنكر معناها ويُعادي مَن اعْتقده وعمل به. ولابد من (الصدق) المنافي للكذب بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق كما قال تعالى: ﴿يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم﴾. ولابد من (القبول) المنافي للرّد بخلاف من يقولها ولايعمل بها. ولابد من (المحبة) لِما دَلّت عليه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك والفرح بذلك المنافي لخلاف هذين الأمرين، ولابد من (الإنقياد) بالعمل بها ومادلّت عليه مطابقة وتضمنًا والْتزامًا. وهذا هو دين الإسلام الذي لايقبل الله دينًا سواه. وكثير ممن يدّعي العلم قد عكس مدلولها.

1 / 11

من عَلِمَ ماتقدم وفهمه تبين له ضلال من يقول لا إله إلا الله وهو يعتقد في البدوي أوالدسوقي أوزينب أوغيرهم من أهل القبور ينذرون لهم النذور ويذبحون لهم ويدعونهم ويغترون بقولهم لا إله إلا الله. أما علموا أن (لا إله) تنفي كل مايعتقدونه بأهل القبور. وهذا الإعتقاد الذي اعتقدوه بهم لا حقيقة له وإنما هو موجود في خيالاتهم فقط وبمقتضى هذا الخيال اعتقدوا الشرك والضلال. وظنوا أن الشرك اعتقاد الخلق أو الرزق أو التدبير فقط. أما مايفعلونه فأوْهمهم الشيطان أن هذا محبة للأولياء وتعلّقًا بجاهِهم وطمعًا في أن يقربوهم لربهم فأوْقعهم في الشرك حيث مالَت قلوبهم لهذه الأوثان وخافوهم ورجوْهم وأحبوهم فبهذا عكسوا مدلول (لا إله) إذْ أثبتوا مَأْلُوهَات تَأْلَهَهَا قلوبهم تعبّدًا لأن أركان العبادة هي هذه الثلاث الخوف والرجاء والمحبة. ومَبْنى كلمة التوحيد على نفي كل معتقداتهم التي نشأ عنها تَأَلّه قلوبهم عن الرسل والملائكة فضلًا عن غيرهم وإثبات ذلك لله

1 / 12

وحده وهو المراد من (إلا الله) في كلمة التوحيد. إن هذا التّوَجّه بالقلوب والإعتقاد هو مراد الرب من خلقه ولايقبله إلا خالصًا بلا شركة مخلوق لانبي ولاغيره. إن مدلول كلمة لا إله إلا الله عظيم وكبير. وكم ممن يغرّه الشيطان بهذه الكلمة دون تحقيق.

1 / 13

ثم قال مصطفى: والنبي يشكو أمته في القرآن ولا يتوسط لمذنبيها فيقول لربه: (يارب إن قومي أتخذوا هذا القرآن مهجورًا) وهي شكوى صريحة وكلام مناقض لأيّ شفاعة. ولن ينجو من المذنبين إلا من تكرم عليه رب العزة وفتح له بابًا للتوبة قبل الممات. (١) الجواب: هذه نزلت في المشركين كانوا لايُصغون للقرآن حين يتلى عليهم ولايستمعونه. ولا تُناقض الشفاعة لأهل الذنوب من الموحدين ولاتدل على نفي الشفاعة لهم بأيّ وجه. أما أنه لاينجو من المذنبين إلا من تاب قبل الممات فباطل مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة وهو إنكار لأحاديث الشفاعة الصحيحة بل وإنكار لما ثبت من أن الله يخرج من النار من شاء برحمته دون شفاعة شافع.

(١) ص ١٧،١٨.

1 / 14

ثم قال: والملائكة في طَوَافهم حول العرش يسبحون لربهم ويستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم قائلين: ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم﴾ الآيات. إذن الوسيلة الوحيدة للنجاة من العقاب هي أن يقي ربنا عباده من الوقوع في السيئات أصلًا أويفتح لهم باب التوبة في حياتهم إذا تَوَرّطوا فيها. وهذه أبواب الشفاعة الممكنة وهي دعاء النبي لِمسلمي هذه الأمة بأن يختم حياتهم بتوبة ونرجو أن نكون من الفائزين بهذا الدعاء. وهذا الدعاء المحمدي هو الشفاعة التي نفهمها بالمعنى القرآني. (١) الجواب: من أنكر ماصح عن النبي ﷺ فهو على شفا هلكة وقدْ صَحّ عنه ﷺ أنه يشفع يوم القيامة بمن يأذن له الله بالشفاعة لهم من الموحدين. أما استغفار الملائكة للمؤمنين ودعاؤهم لهم. كذلك دعاء النبي ﷺ لأمته فلا يمنع ولايعارض ماثبت من أمر الشفاعة في القيامة

(١) ص ١٨.

1 / 15

فأيّ فهم هذا؟. ثم قال: أما الشفاعة بمعنى هدم الناموس وإخراج المذنبين من النار وإدخالهم الجنة. فهي فَوْضى الوسايط التي نعرفها في الدنيا ولا وجود لها في الآخرة. وكل ماجاء بهذا المعنى في الأحاديث النبوية مشكوك في سنده ومصدره لأنه يخالف صريح القرآن. ولايعقل من نبي القرآن أن يطالب بهدم القرآن. (١) الجواب: يقال لهذا: ماهو الناموس الذي ينهدم إذا حصلت الشفاعة للمذنبين من الموحدين وأدخلوا الجنةبعد تعذيبهم بقدر ذنوبهم في النار؟ إن الله لايُساوي بين مختلفَيْن ولايفرّق بين متساوِيَيْن ولا يظلم مثقال ذرة. فالذي يأتي يوم القيامة بالتوحيد وله ذنوب فإما أن يغفرها الله أويعذب بقدر ذنوبه ثم يُؤذن بالشفاعة له فكيف يُساوَى هذا بالكافر؟ وانهدام الدين إنما هو بردّ ماثبت عن رسول الله ﷺ. وكوْن أحاديث الشفاعة مشكوك في سندها ومصدرها هذه داهية. ولِكل أحد أن يقول مثل هذا فيما يخالف هواه فهل يستقيم أمر الدين مع هذا التلاعب.

(١) ص ١٩.

1 / 16

أمّا أن أحاديث الشفاعة تخالف صريح القرآن فمن أبطل الباطل ويستحيل أن يصحّ عن النبي ﷺ مايخالف القرآن. ثم إن الله يقول: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ فلوْلا أن الشفاعة كائنة في القيامة لَمَا ذكر الله هذا الإسْتثناء. وقال تعالى: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ فلوْلا أن الشفاعة كائنة في القيامة لما ذكر سبحانه هذا الإستثناء. فهذه الآيات ونحوها في أهل التوحيد. أما الكفار فقد قال تعالى: ﴿فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ مما يبين أن الشفاعة حاصلة لغيرهم. ويقول تعالى عن الكفار أيضًا: ﴿فما لنا من شافعين﴾ فأين المخالفة لصريح القرآن لوْلا سوء الفهم.؟

1 / 17

أما فَوْضى الوسائط المعروفة في الدنيا فهذا مبني على أصل فاسد وفهم فاسد حيث أن الشفاعة المثبتة في الآخرة تختلف اختلافًا كليًا عن وسائط الدنيا. فالواسطة في الدنيا يتوسط ولوْ لم يأذن له المشفوع عنده كما أن المشفوع عنده في الدنيا يجيب شفاعة الواسطة لأنه يخافه ويرجوه ويستعين به ويستظهر وإن كان في صورة ملك ونحوه فهو يحتاج إلى الأعوان والأنصار ويتضرر بعدم إجابته شفاعتهم. والرب ﷾ بخلاف هذا كله. وإنما هو يُكْرم الشافع بأن يجعله يشفع. ولا يشفع الشافع إلا بمن يريد الرب أن يرحمه فليست الشفاعة مُلكًا لأحد بل (لله الشفاعة جميعًا) وهو الذي يُعَيِّن المشفوع فيه للشافع. ليس الشافع يتقدم بين يدي الجليل سبحانه مهما كانت منزلته فَسَيّد الشفعاء وأكرمهم عند ربه وأعظمهم جاهًا وأقربهم منزلة محمد ﷺ يُحَدّ له حدًا يشفع فيهم. وهذه كلها فروق بين شفاعة الدنيا وشفاعة الآخرة.

1 / 18

ولذلك من تعلّق بغير الله طالبًا منه الشفاعة حُرِمها لأنها ملك لله سبحانه ولأن هذا شرك. ومِنْ عدم التفريق بين الشفاعة عند المخلوقين من الملوك ونحوهم وبين الشفاعة عند الخالق سبحانه حصل الضلال والشرك حيث تعلقت القلوب بغير الإله الحق سبحانه. ومما يُهوّن معرفة ماتقدم أن الرب سبحانه هو الخالق لأفعال العباد فلا أحد يملك أن يتحرك قلبه بإرادة شفاعة لأحد إلا أن يكون الله يخلق ذلك فيه. وكذلك جوارحه. فالأمر كله له سبحانه. إن تأمل هذا ومعرفته بالقلب يعطي العبد فرقانًا عظيمًا بين الشرك والتوحيد بِقِسْمَيْه ويعرّفه معنى الكلمة العظيمة (لاحول ولاقوة إلا بالله) فهو المحرك للمتحرك والمسكّن للساكن في السموات والأرض. فهذا من توحيد الربوبية الذي يسْتلزم توحيد الإلهية. وتأمل ماورد في حديث الشفاعة وهو في الصحيحين (آتي تحت العرش فأخِرّ ساجدًا فيدعني ماشاء الله أن يدعني ثم يقال: إرفع رأسك وقل تسمع واشْفع تشفّع قال: فيحدّ لي حَدًّا فأدْخلهم الجنة؟) إذا كان يُحَدّ له ﷺ فرجع الأمر كله لله

1 / 19

وطلب الشفاعة من غيره شرك وضلال. والأحاديث متواترة في شفاعته ﷺ في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبَدَّعُوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادَوْا عليه بالضلال.

1 / 20

ثم قال: ولكن المسلمين الذين عُرفوا بالإتِّكاليه قدْ باتوا يفعلون كل منكر ويرتكبون عظائم الذنوب أتكالًا على نبيهم الذي سوف يخرجهم في حفْنة واحدة من النار ويلقي بهم في الجنة بفضله وكرمهِ وهم الذين شكاهم إلى ربه في صريح قرآنه وجَأَرَ بشكواه قائلًا: ﴿يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا﴾ (١). الجواب: أما أن يرتكب العبد عظائم الذنوب اتكالًا على الشفاعة فهذا إنما يفعله من هو مِن أجهل الناس لكن لايُرَدّ الباطل بباطل فشفاعة النبي ﷺ ثابته للمذنبين من أهل التوحيد من أمته وإنكار ذلك رَدّ على الله أمره وعلى رسوله مابلّغه. إن هذا هو مَشْرب الخوراج حيث عظّموا الرب سبحانه بما اخترعوه من عند نفوسهم ليس لهم فيه برهان حيث ضاقت

(١) ص ١٩.

1 / 21

صدورهم ولم تَتّسع لأن يرحم الله أهل التوحيد الذين اسْتَوْجبوا النار بذنوبهم فيخرجهم منها بالشفاعة. وقد وقعوا بأعظم مما فرّوا منه ولذلك ورد في ذمهم ماهو معلوم. والدين ليس بالرأي. وحَسْبُ العقل من الكمال أن يلْتزم ماورد به الكتاب والسنة وبفهم الصحابة. وآية: ﴿يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا﴾. تقدم أنها في المشركين لكن هجران القرآن أنواع متفاوته فأعظم هجرانه عدم الإيمان به ثم لمن هجره بالتقصير في حقه نصيب من الذم ولو كان مُوَحِّدًا ولا يُلْحقه ذلك بالكفار ولاتدل الآية على نفي الشفاعة بأي وجه.

1 / 22