وكانت أوروبا قد تعودت منذ طفولتها أن تذهب بعد ظهر كل يوم إلى شاطئ البحر مع لداتها من عذارى صور، فيلعبن هنالك زيافات على حصى الشاطئ، ويبتردن بماء البحر، حتى إذا أمسى المساء عدن إلى منازلهن، وعادت أوروبا إلى قصر أبيها تزهو جمالا وشبابا.
وذات يوم بينما كانت وأترابها، كعادتهن على شاطئ البحر، كان جوبيتر (زفس) جالسا على عرشه الإلهي يرمي الأرض بعينيه من أعالي سمائه، باحثا عن إنسية ينسى معها ملله لفراش جونون (هيرا) زوجته، وجوبيتر مشهور بولعه بالإنسيات الحسناوات، ولكنه كان يخشى غيرة جونون وانتقامها من اللواتي يحلين في عينيه، وكثيرا ما فاجأته مع بنات الأرض؛ لأنها كانت تراقبه دائما؛ لعلمها بنزورة أمانته لها، فكان يتستر بالغمام فلا تفطن له إلا بعد أن يكون قد قضى لبانته من صيده، وكم من جناية جنى على بنات الأرض وتركهن عرضة لانتقام ربة الأولمب، وقصته والحسناء اليونانية إيو شهيرة في الأولمب وعلى الأرض. اختطف هذه الفتاة فباغتته جونون ملتفا وإياها بالغيوم، فلما أحس وقع قدميها حول إيو إلى عجلة، فلم تجز حيلته على جونون، فأخذت العجلة وحبستها، غيرة منها، على رأس جبل، وعهدت بمراقبتها إلى أرغوس ذي المائة عين، فعبرت تلك المسكينة أياما ملؤها شكوى وعذاب إلى أن حن قلب جوبيتر وشاء إنقاذها. ومن تراه يقوم بهذا الأمر إلا مركور رسول الآلهة؟! فبعثه جوبيتر إلى الأرض فنوم بنغمات شبابته عيون أرغوس عينا عينا ثم قتله، وأنقذ إيو فعادت إلى جسمها الإنساني، وسكتت جونون على مضض، ولكنها كافأت أرغوس بأن حولته إلى طاوس، وجعلت عيونه دوائر على ذنبه ملونة بألوان قوس السحاب.
وهناك مئات من بنات الإنس لها بهن رب أرباب الأولمب، ثم تركهن إما خشية من جونون أو لافتتانه بأخريات من جنسهن.
أما في ذلك النهار فكان قد مر عليه زمن طويل لم يعبث فيه بإنسية، زمان أظهر فيه لجونون أنه تاب إلا عن حبها، فصدقته أو تظاهرت بتصديقه، وهل يمكن خداع المرأة في شئون الحب؟! ومهما كانت الحال فقد غفلت عنه فشعر بنعمة الحرية، وجعل يرصد الأرض حتى وقعت عيناه على جبل قريب من صور، انتثر فوقه قطيع من الثيران لملك تلك المدينة، فتذكر أن لهذا الملك ابنة آية في الجمال، وأنه كان يلمحها بعد ظهر كل يوم على رمال الشاطئ فلا يأبه لها، فأدار عينيه إلى هنالك فإذا به يراها تشع في الشمس كفلذة من الماس، فارتقص فؤاده تشهيا، وقال في نفسه: ما دامت جونون غافلة عني فلأنحدر إلى أرض صور، وأختطف هذه اللؤلؤة السنية، وأذهب بها إلى حيث لا تراني عين.
قال هذا ولكنه تردد هنيهة عن النزول إلى الأرض ليبتدع حيلة يتمكن بها من الدنو من أوروبا، فأنارت له مخيلته سبيل الحيلة، وهل يعجز رب أرباب الأولمب عن ابتداع حيلة؟! فدعا إليه ولده مركور وقال له: يا بني، أيها الأمين على تنفيذ أوامري، اهبط الأرض في السرعة المعهودة بك تر على شمالنا بلادا يرفع أهلها عيونهم إلى سمائنا تعبدا لأمك، بلادا يسميها سكانها صور، هناك على الجبل المجاور لها قطيع من الثيران يرعى العشب الأخضر فسقه إلى شاطئ البحر.
لم يقل جوبيتر كلمته حتى انتعل مركور نعليه الذهبيتين المجنحتين اللتين تمسكانه في الهواء، وتطيرانه فوق الأرض وفوق البحار بسرعة الريح، وحمل بيمينه مخصرته الذهبية التي يقود بها الطيوف الشاحبة من ظلمات الجحيم إلى أضواء السماء، أو يقودهم إلى تلك الظلمات المحزنة. بهذه المخصرة يفتح العيون التي أطبقها الموت، ويتسلط على الرياح ويجتاز العواصف. هكذا انحدر مركور من أعلى عليين كالشهاب اللامع، وإذا بالثيران تتزاحم نحو الشاطئ حيث تلعب بنت الملك والبنات الصوريات، فلما أبصر جوبيتر هذا تزيا بزي ثور أبيض، وسقط على سحابة بيضاء إلى الشاطئ الصوري، واختلط بالثيران السود يخور خوارهم، ويرعى مرعاهم ويتخطر معهم على رمال الشاطئ، وكان لونه يلمع لمعان الثلج تحت أشعة الشمس، وعنقه متين العضلات، وغببه يتدلى حتى كتفيه، وجعل قرنيه الناصعي البياض صغيرين لئلا تخاف أوروبا منهما.
وأبصرته أوروبا فأدهشها أن ترى بين ثيران أبيها السود ثورا في هذا البياض وهذا الجمال لا يبدو عليه ميل للنطاح، ولكنها على لطفه وجماله وسكينته لم تجسر أن تلمسه، فأوحى جوبيتر إليها أن تدنو منه وتداعبه، فدنت وقدمت لفمه أزهارا بيضاء لا دنس فيها، فذفذف سرورا ولمعت عيناه غبطة ولحس يدها: قبلة خفية بث بها لواعج فؤاده، ثم جعل يزحمها بكتفه زحما لطيفا، ويقفز على العشب الأخضر قفزات الغنج والدلال، أو ينبطح متقلبا على الرمال الحمراء، فتضحك أوروبا ملء فيها، فتشجع وعرض عليها صدره لتدغدغه بيدها الناعمة، ثم أدنى منها قرنيه لتعلق بهما أزهارا، ولما رآها أنست به وسكن قلبها إليه حول ظهره نحوها يدعوها دعوة صامتة إلى الركوب عليه، وكانت أوروبا صبية لعوبا، فقفزت على ظهره فطفق يمشي بها متمهلا ويترك اليابسة خطوة خطوة، وهي تلتفت إلى رفيقاتها مزهوة ضاحكة، حتى غمرت المياه قوائمه فسبح مبتعدا إلى صدر البحر، فسرت في بدن أوروبا رعشة الذعر، وتلفتت نحو الشاطئ فإذا هو بعيد منها، وكانت الريح تعبث بثوبها الأرجواني الهفهاف، فخشيت أن تسقط في اللجة، فأمسكت بيمناها أحد قرنيه، واستندت بيسراها إلى ردفه، وحاولت أن تديره نحو الشاطئ ليعود بها ولكن هيهات ما أرادت، ولما غاب الشاطئ عن ناظريها دب الرعب في قلبها وصاحت تستغيث جوبيتر، وإذا بالثور يخلع عنه ثوبه الثوري، ويبدو في ثوب من النور وهو يقول: ها أنا ذا من تدعين! فلبيك. لا تخافي وإنما تيهي جمالا ودلالا. أليس من العزة والسؤدد أن تسترقي رب الأولمب وتجعليه مطية لك؟ ثم حملها إلى برية ديكته، في الشاطئ الجنوبي من جزيرة إكريت، وتزوجها تحت شجرة دلب خلدت عليها أوراقها منذ ذلك اليوم، فهي لا تيبس ولا تسقط أبدا.
هذا ما كان من أمر أوروبا. وأما ما كان من أمر والدها آجينور وأخيها قدموس، فأصغ إلى ما حدثت به الهواتف: وقفت عذارى صور مأخوذات دهشة ورعبا حينما رأين الثور الأبيض يحمل أوروبا ويسير بها في البحر، ولبثن متوقعات أن يعود بها، حتى هبط الظلام وهبت أنسام الليل الباردة، فعدن إلى بيوتهن يكتمن حزنهن خشية من الملك الذي كن يعرفن تعلقه بابنته.
دمس الليل وأوروبا لم ترجع إلى قصر أبيها، فتبلبل القصر وريعت نساؤه ورفعن الصوت معولات، فسمع الملك صيحتهن فأقبل مبغوتا يتقصى الخبر، ولما علم بغيبة ابنته صعق، وما ثاب إلى نفسه حتى بادر بإرسال العبيد والإماء يجوسون بمشاعلهم شاطئ البحر وأنحاء المدينة لعلهم يرون لها أثرا أو يعرفون خبرا، وكان قدموس يعرف أتراب أخته، وكثيرا ما كان يغازلهن ويلاطفهن، فأسرع لائع القلب إليهن يستطلعهن أمرها، فأخبرنه بما كان من الثور الأبيض. ولم تكن حيل جوبيتر في تخطف الإنسيات بخافية على أحد، فأدرك قدموس سر فقدان أخته وعاد إلى أبيه بالخبر اليقين، ولا تسل عن احتدام غضب آجينور على جوبيتر ولا عن الشتائم التي أرسلها إليه، وقد ذهبت سدى استغاثته لجونون حامية صور، فأوروبا لم ترجع ولا هو يعرف أين مقرها، ولما أيأسته الحال نادى على ابنه قدموس وخاطبه قائلا: يا بني! إني آمرك أن تطوف في الأرض كلها لتجد أختك أوروبا وتأتي بها إلي. وإلا فنفيا، تنفى من البلاد التي هي تحت سيطرتي، وعش بعيدا حيث يشاء لك العيش إله الحظ.
قال هذا ودخل إلى مقصورته مشتملا بحزنه العميق، وقعد يرثي بنته ويبكي. بكى هذا الملك الجبار الذي لم تكن، من قبل، تعرف الدموع عيناه، ولبث الصوريون يحتفلون في كل سنة بذكرى اختفاء أوروبا في ذاك المساء المشئوم، وألهوها ودعوها الربة القمرية.
صفحة غير معروفة