أسس التفكير العلمي
أسس التفكير العلمي
أسس التفكير العلمي
أسس التفكير العلمي
تأليف
زكي نجيب محمود
أسس التفكير العلمي
(1) مجالات مختلفة
هذه صفحات أكتبها عن أسس التفكير العلمي موجهة إلى القارئ العام؛ وأول ما أريد لهذا القارئ العام أن يتبينه في وضوح ناصع، لكي يتجنب كل لبس بين المتشابهات؛ هو أن للإنسان مجالات مختلفة يتحرك فيها بنشاطه الذهني، فليس العلم أو التفكير بمنهج العلم هو مجاله الوحيد، بل إن له لميادين كثيرة أخرى، ولكل ميدان منها موازينه الخاصة؛ فإذا قلنا فيما يلي من الصفحات إن المنهج العلمي يقتضي كذا وكذا من الشروط وقواعد السير؛ فلسنا نعني إلا مجال العلم وما يدور مداره، وأما غير العلم من ميادين النشاط الإنساني فليس هو موضوعنا هنا. إن ما سوف نوجز القول فيه هنا لا ينطبق - مثلا - على مجال الفن والأدب، ولا على حياة الإنسان الوجدانية بصفة عامة؛ وليس الأمر في حياة الإنسان الشاملة، هو أن نقول له: إما أن تكون ذا منهج علمي في تفكيرك وإما ألا تكون؛ كلا، بل شأن الإنسان في حياته هو أن يكون هذا وهذا وذاك وذلك في حياة واحدة؛ لكنه - مع ذلك - مطالب بأن يلتزم في كل ميدان منهاجه الملائم، على أن نتذكر هنا بأن الملاءمة في هذا الميدان أو ذاك - ليست فرضا مصبوبا على الإنسان من حيث لا يدري، فلا حيلة له إلا أن يصدع بما فرض عليه، بل إنه لفرض وجب التزامه على ضوء خبرة الإنسانية عبر تاريخها الطويل؛ فإذا قيل لنا: إن منهاج العلم هو كذا وكيت؛ كان معنى ذلك أن خبرة الإنسان في محاولاته قد دلت على أن هذا المنهاج المعين هو أفضل طريق للسير في مجال البحث العلمي، دون أن يمنع ذلك من أن يدخل عليه من التعديلات ما يتبين أنه الأصلح.
إنه إذا قال شاعر كأبي العلاء: «ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد» فلا يجوز أن يتعرض له عالم الجيولوجيا قائلا: لقد أخطأت، فسطح الأرض ليس مقتصرا في عناصره على العناصر التي تتكون منها أجساد البشر، بل فيه ما ليس في هذه الأجساد من عناصر؛ لا، لا يجوز لعالم الجيولوجيا أن يعترض على الشاعر بمثل هذا؛ لأن للشاعر مقياسا يقاس به صوابه الشعري، غير المقياس الذي يقاس به الصواب والخطأ في العلم؛ فعندما قال أبو العلاء إن أديم الأرض - في ظنه - ليس إلا من أجساد بشرية كانت كأجسادنا، لكن جاءها الموت فبليت وتحللت وباتت ترابا من هذا التراب الذي ندوس عليه بأقدامنا - فإنما أراد أن يحد من غرور الإنسان بنفسه، وهو هدف لا يتصل من قريب ولا من بعيد بهدف عالم الجيولوجيا حين يحلل تربة الأرض إلى عناصرها ليعلم ما مكوناتها؛ ولكل من الشعر والعلم ميزان خاص؛ أما ميزان الشعر الجيد فهو من شأن نقاد الأدب، وأما ميزان العلم الصحيح فهو في أيدي من ألموا بأصول المنهج العلمي.
صفحة غير معروفة