فمضت في مزاحها قائلة: عجبا، ومن أين لك هذا الوصف الدقيق الشامل وأنت لما يمض عليك ها هنا ساعتان؟ قلت: لا تعجبي أيتها الصديقة العزيزة؛ فإن في العالم مفاتن رسمتها المطالعة في هذه الذاكرة، وفي ڤنيسيا الحمراء غنى الشعراء وكتب الملهمون، حتى في هذا الأسد الضخم الرافع قبضته البرنزية إلى الأفق الهادي وفي هذا البحر الذي لا صياد فيه ...!
ولم أكد أتم كلمتي حتى صاح الصديق: إن الساعة الحادية عشرة ولم نصل بعد إلى «الريالتو» ونحن ظماء يا صديقي إلى البيرة فأسرع بنا إذن، وغدا نتم حديثنا عن الرسول مرقص والفن العربي.
وسرنا نسأل هنا وهناك عن «بونت دي ريالتو» حتى وصلنا القنال العظيم وأخذ بأبصارنا الجسر المعلق عليه، وفي الحق لم يكن بحثنا عنه ساعة كاملة، ولا مسيرنا كل ذلك الوقت عبثا؛ فإن هذا الجسر يعتبر من أعاجيب الهندسة التي تفرد بها «أنتونيو دايونتي» عام 1590.
وصعدنا الدرج الواصل إلى منتصفه فإذا بنا وسط حان صغير انتثرت في جوانبه موائد حمراء صغيرة، صفت حولها المقاعد بأناقة وذوق فاتن فاخترنا مكانا، وأقبل غلام الحان بابتسامته العريضة، وما هي إلا دقائق حتى غصت المائدة بأقداح البيرة الكبيرة الفائرة الزبد! وانطلقنا في حديثنا عن مصر، وأخرج الصديق بطاقته وقال: إذا شئت فاكتب لي عند عودتك وأعطني عنوانك لأكتب إليك. فتأملت البطاقة وهتفت بالرجل: هل أنت حفيد السياسي العظيم «بلسودسكي»؟ فضحكت السيدة حتى كادت تستلقي بكرسيها على الأرض وقهقه الرجل قائلا: إنها مصادفة! إني أستاذ في جامعة فرسوڤيا.
ثم أفاض في حديثه عن برلندا وتمنى لو زرتها معهم وتحدثنا عن الفن البولندي، فذكرت له كيف التقيت بالمصورة الفنانة «أولجا بوزنانسكا» في قصر السنيوريا بفلورنسا، وأخذ هو يحدثني بدوره عن مميزات فنها وعن مصور بولندي آخر هو الفنان «فالكاف باسكوفتش» الذي أحرز جوائز كثيرة في معارض الفن الحديث، والتفتت السيدة إلينا متململة وهي تتهكم علينا بقولها: ولم لا تتحدثان أيضا عن تماثيل كومانسفسكي؟. ألا تخلصان من حديث القصور والصور والمتاحف هذه الليلة؟ أيها الرجال هذه فنيسيا الحمراء!
قلت مداعبا: فلننصرف إذن إلى حديث الحب ومغامرات العشاق في هذه المدينة، ولنبدأ بهذا الشاعر الذي فر بعشيقته الشاعرة إليها، أو فلنبدأ بحديثه فربما كانت هي التي فرت به ... وربما كانا يجلسان مثلكما فوق هذا الجسر وإلى مثل هذا الخوان وفي هذا المكان، وربما كان يجلس إليهما في تلك الليالي الخالدة رجل مثلي غريب عنهما أيضا ... فقهقه الرجل طربا لهذه العبارات الموفقة، أما هي فقد افتر ثغرها النضير عن ابتسامة مشرقة عذبة؛ قالت: ليس في هذه الإثارة ما يبهج، وربما كان فيها ما يشجي! فقد لقي هذا الشاعر المسكين من حب هذه الشاعرة ما لقي، ولقد كانت امرأة عنيفة الأهواء، جامحة النفس، متقلبة، كثيرة التنقل بين عشاقها فمن موسيقي إلى شاعر إلى طبيب ... ومن يدري؟ ولكنه كان صادق الحب وكان خياله يلهب حبه وكان سعيدا بهذا الخيال فجاء مرضه في هذه المدينة شؤما عليه ...
وقال الرجل: ولكنكما نسيتما أشياء عن هذين العاشقين، فلم تكن «جورج ساند» تحب في موسيه ما تحبه المرأة المكتملة الأنوثة في الرجل عادة، إن الحياة التي اضطرب فيها قلبها قد سلبها ما ظنت أنها وجدته في ربيب أبولون: صورة وادعة، وعربكة لينة، وقلب ناضر، وجانب رقيق، ولكن الأنثى قد استيقظت فيها على صوت خشن غريب، هو صوت الطبيب الذي يعود شاعرها المريض. غير أن ذلك القلب الدامي الذي حرك الرحمة والحنان في قلب العالم كان قد وقع نشيده وغناه، وخلد فيه هواه وهو يهتف: لندع ساعة البرج في قصر الدوج الهرم تعد عليه لياليه المسئمات، ولنعد على ثغرك العاصي يا جميلتي هذه القبلات المغتفرة!
وشاعت روح هذا الشعر في نفوسنا وتملكتنا رغبة في المرح فرفعنا أقداحنا، ومال الرجل على صاحبته وهو يقول: ألا تغنينا الآن يا عزيزتي شيئا من ألحانك؟ قالت: أي الألحان تريد؟ قال لحنك الروسي المفضل. فنظرت إلى الماء المتألق تحت الجسر وقد بدا نوتي يغني في جندوله البعيد فبدأت إنشادها:
لا نجم، لا مصباح
يلمع في السهل
صفحة غير معروفة