William Somerest Maugham ».
فنحن هنا إزاء رجل آخر يرجع جلاء قريحته وطبعه المصقول إلى العمل الذي أحبه وآثره، وإلى المنطق الذي استمده من طوارئ حياته، كما يرجع في ذلك أيضا إلى عائلة إنجليزية امتدت أصولها منذ أجيال بعيدة إلى أرض فرنسية، حيث كان قد أرسل به صغيرا إليها عقب وفاة أمه ليكون في كنف أقارب قضى سوء الطالع أن يكونوا غير متعاطفين، ولكنه باستخفاف صبي ذي شعور مرهف، مضطرم الحنين إلى وطنه، لم يدخر جهدا في إدخال السرور إلى منزل يهتم به جماعة من الغرباء النازحين في أرض أجنبية، ومنذ ذلك الحين شب على غرار أصيل من أرومته، فجعل قوام أعماله الأدبية النظر في حياة الإنجليز الخاصة، وشحذ من نظرته في الحياة عمله كطبيب، وقد أورثه الدم الإنجليزي المتدفق في عروقه حب الأسفار وجوب البحار، ولم يكن يسأم الانفراد بنفسه، بل إن ذلك قد رزقه إمعان الفكر في الحياة.
وفي كتابه «قصارى القول» الذي نطالع فيه تاريخ حياته، نرى كيف مضى مطوفا بأنحاء الإمبراطورية القاصية وكيف أنه استلهم هذه الحياة ما تفرد به من عقل محلل، وجأش رابط، خلق ركين، وقد يبدو عجيبا اندماج مثل هذا الرجل في بيئات الحكام والمستعمرين، وأوساط الجنود والملاحين، الذين التقى بهم في حلاته واتصل بهم خلال عمله، ولكن ذلك ما آثره من قبله الشاعر العظيم رديارد كبلنج
Rudyard Kipling
وعظمه بحرارة ونال منه رضى لا يحتمل تأويلا، ولقد كتب كبلنج عن أولئك الرجال كما عرفهم، وصورهم بالحالة التي رآهم عليها، أما «موم» فقد كتب عنهم بطريقته التحليلية نافذا إلى حياتهم من خلال علومه ومععارفه، فالغريب إذن هو أن الشعب الذي قرأ لكبلنج ما كتبه عن هؤلاء الرجال وأعجب به واستساغه، هو نفس الشعب الذي أقبل على قراءة ما كتبه موم عنهم واستساغه أيضا، وهذه علامة التحول في الوضع دون أن يرجع ذلك إلى تفاوت في الخلق، أو فتور في العزيمة والإقدام.
ولكن «موم» استطاع أن يخدم الإمبراطورية، وستبقى الإمبراطورية التي أحلها اهتمامه، وحباها أعظم التقدير والتبجيل.
أجل إننا نتحول، إن عقليتنا المركبة فينا قد تطورت كثيرا، وأصبحت أكثر قابلية لمقابلة الجدل المحتشم، وأعظم مرونة لمعالجة المسائل المعقدة، أكثر وأعظم مما كانت عليه من قبل، وللتدليل على ذلك نعرض لمستر بريستلي
وأعماله الأخيرة.
فهذا مؤلف نابه معروف للسواد الأعظم من الناس، تبرز في سمته شخصية مشاكس عنيد، أقرب في شدة مراسه إلى المزارعين الأقوياء منه إلى كاتب يدبج المقالات، إنه قوي كملاكم، يتكلم بنبرات كالقرويين إذا هضبوا بالقول، وهو لا يفتح فمه إلا بإشارات وإيماءات عنيفة، متباينة الأثر في سامعيه، فإما أن تثير حقدهم عليه مدى الحياة، أو تجعلهم أصدقاءه إلى الأبد.
وهو يكتب متدفقا متمثلا ألوانا من العظمة، ليحصل على مكافأة أدبية، أو ليدير مسرحا، أو ليضرب في الأرض في رفقة أقاربه المنتشرين في كل الأصقاع، وقد أصاب النجاح بأمثال كتابه «الأصدقاء الأخيار
صفحة غير معروفة