وهذا سر بودلير وفنه الذي يقف به وحده في تاريخ الشعر الحديث.
ففي مدى سنتين من عام 1855 كان اسمه حديث الخاصة والعامة، وكانت محاكمته على بعض قصائد ديوانه «أزهار الشر» قد مهدت لهذه الشهرة.
لقد كان لدى بودلير ورع الإنساني ورقة الخير، ولكنه أراد تحويل الطبيعة التي لا تتحول. فلم يجد ثمة من محبة للكمال البشري أو النبل الفطري.
وهنا يقول أرثر:
وهناك أزمنة في التاريخ، عندما يخبو لهب الصباح المضيء، وتخمد وقدة الظهيرة القائظة، فإن المأساة لا تذهب بعيدة عنا، ولا تمضي عائثة في الأرض، وحينما ينطلق مرتفعا كرم الروح الأصيل، وترتد عيون الرجال في أغوار النفوس، وفي ظلال الأشباح الغامضة، وفي الندامة والسخرية، والتشاؤم والألم، فعند هذه قد يصل الفن إلى أمثل صوره، وقد لا يكون من ندحة عن اكتساح النمط الكلاسيكي بعنف، والسمو إلى صناعة رفيعة، وقالب متجاوب بالأحاسيس؛ ليكون مع بعض إيضاح بسيط تعبيرا صادقا متماثلا بالأمانة والحماسة.
ولكن بودلير وضع نفسه بيده في موقف الاتهام، وليس من رحمة ولا شفقة، ولم تكن هزة الاتهام لتنفذ من سياج شخصيته المتحركة دائما في رحاب حياته، وإن تركت حياته بعد ذلك حلقات غير متصلة، وكانت قسوة محاكمته - وقد بلغت أقصاها - واحدة من أسباب عزلته الأبدية.
فالذين قرأوا لبودلير ولم يقفوا على تلك العوامل التي اكتنفت طريق حياته، لا بد وأن يجرفهم تيار اتهامه القاسي.
وأرى من العبث الدفاع عن بودلير كما أن من السخرية القول إنه لم يكن واقعا في الخطيئة أو متصلا بها اتصال هؤلاء الذين لا تشعرهم الطبيعة بفضيلة الإيمان، فقد قضى حياته مخلصا لمناسك شهواته، وفي ذلك يقول أرثر سيمونس:
إن في شعر بودلير إحاطة واسعة عميقة لتمرد الشعور واهتياج الحس وضلال الميل الجنسي، فيها شيء عجيب يفخم من صوت الرذيلة المكتنفة بالرعب، وفيها شيء عجيب آخر عن حماسته في عبادة شهواته!.
لقد عاش وحيدا ومات وحيدا، يحوطه الغموض، معترفا بخطاياه التي لم يقل عنها كل الحقيقة، متفانيا في شهواته، وفي الماخور، منسكه الأثيم.
صفحة غير معروفة