المقدمة
مقدمة الطبعة الرابعة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الرابعة:
لقيتْ هذه الدراسة من تشجيع الباحثين المشكور ما دفعني إلى أن أنميها في طبعتها الثانية بما أضفتُ إليها من مواد جديدة، وهي مواد لا تغير شيئًا في النظرية التي قامت عليها، وهي أن شعرنا العربي تطور مع الزمن في مذاهب ثلاثة: مذاهب الصَّنعة والتصنيع والتصنُّع. بل هي تدعمها وتوثق مقدماتها ونتائجها.
وبنفس هذه الغاية رجعتُ أنظر في فصول الكتاب حين أخذت في إعداده للطبع مرة رابعة أريد أن أستوفي معانيه وحقائق مذاهبه بقدر ما أستطيع، وأنا في أثناء ذلك تارة أنقِّح ما سبق أن كتبت، وتارة أضيف زيادات جديدة، كما أضيف بعض الأمثلة والشواهد لغرض تمام التوضيح وكمال البيان.
ورأيت أن أعيد كتابة الفصل الثالث من الكتاب الأول الخاص بالصنعة والتصنيع وتقابلهما في القرنين الثاني والثالث للهجرة، حتي أبسط الحديث في العلاقات الجديدة المادية والمعنوية التي أثرت تأثيرًا واسعًا في الشعر العباسي وهي كثيرة: منها ما يتصل بالسياسة والدعوة العباسية، ومنها ما يتصل بالجنس ونزعاته. ومنها ما يتصل بالحضارة والتراث الثقافي الأجنبي الذي انتقل إلى العربية، ومنها ما يتصل باللغة وما جَدَّ فيها من أسلوب المولدين، وهو أسلوب مبسط شفاف ليس فيه إغراب ولا ابتذال، أسلوب يقوم على الألفاظ الواسطة التي لا تهبط إلى لغة الدهماء والعامة ولا ترتفع إلى لغة الإعراب الحوشيَّة، مع الجزالة والرصانة حينًا. وحينًا مع العذوبة والرشاقة والحلاوة. وهو أسلوب ينهض نهوضًا رائعًا بكل ما أتيح للعقل العباسي من ذخائر الفكر ولطائف الذهن
1 / 5
وبدائع الخيال والتصوير، مع تمثيل المجتمع بكل ما كان يخوض فيه.
ومن أهم ما يميز هذا الأسلوب أنه لا تنقطع فيه الصلة بين القديم والجديد، فهو يحتفظ بخير ما في القديم من ألفاظ، وكل ما يدخله عليها إنما هو التهذيب والتصفية والترويق، وأيضًا فإنه يحتفظ بخير ما في القديم من معانٍ وصور، وهو يشفع ذلك بدقائق الفكر العباسي الجديد واستنباطاته الخفية ومحاسن خياله الحديث وتصويراته المونقة البارعة.
وبذلك تطور الشعر في العصر العباسي تطورًا مثمرًا، تتوثق فيه العلل والأسباب بين القديم والجديد توثقًا نحسُّ فيه ضربًا من المحافظة المنتجة الحية، كما نحس فيه ضربًا من التحول مع العصر وكل ما يداخله من ألوان الحضارة والترف وآثار الثقافة والفكر العميق. وقد يتغلب عنصر التحول على عنصر المحافظة عند بعض الشعراء، وقد يشوبون ذلك بضرب من الثورة على القدماء؛ غير أن هذا لا يخرج بالشعر العباسي -حتي عند هؤلاء الثائرين- على أصوله التقليدية؛ فالقديم يزاوج فيه الجديد مزاوجة تتيح له الخلوص من العقم والجمود، كما تتيح له التطور الحي في التعبير والتفكير والتصوير.
وقد حاولت في هذه الطبعة أن أوضح هذا التطور للشعر العباسي، ودرست أعلامه الأولين الذين مهدوه وثبتوه، وهم بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد؛ حتي يستبين ازدهار مذهب الصنعة على أيديهم وما نشأ من مذهب التصنيع الجديد، ومن أجل ذلك كله أعدت كتابة فصل الصنعة والتصنيع، وكل ما زدته أو أضفته إنما هو في سبيل استكمال معاني هذه الدراسة الأدبية ومذاهبها الفنية. والله الهادي إلى سواء السبيل.
القاهرة في ١٥ مارس سنة ١٩٦٠ شوقي ضيف.
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى:
حاولت في هذا الكتاب أن أضع للشعر العربي مذاهب فنية تفسر تطوره في عصوره وأقاليمه المختلفة، وقد صادفني مشكلتان أساسيتان، وهما: كيف أرتب هذا الركام الهائل من الشعر والشعراء الذي يمتد من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث؟ ثم أي المصطلحات أتخذها للدلالة على مذاهب الشعراء ومناهجهم الفنية؟ ورأيت أن أنحاز عن هذا الخليط المضطرب من الألفاظ الغربية التي نقلها بعض نقادنا المحدثين من مثل "كلاسيك" و"رومانتيك" ونحوهما؛ فإن من الصعب أن نحمل أدبنا على مذاهب الأدب الغربي، وهو لا يمت إليه بوشائج تاريخية ولا فنية، وذهبت أبحث في الشعر العربي وموجاته المتعاقبة؛ فلم أجد فيه تجديدًا واسعًا، بل رأيته يستمر في أغلب جوانبه بصورة واحدة؛ فدائمًا مديح وهجاء وفخر ووصف وغزل. وجعلني ذلك ألتفت إلى حقيقة مهمة، وهي أن التطور في شعرنا العربي إنما كان في الصناعة نفسها، أي في الفن الخالص وما يرتبط به من مصطلحات وتقاليد. حينئذ رأيت أن أضع له مذاهب على أساس صناعته والفن فيه.
ونظرت في النقد العربي القديم، فإذا النقاد يقسمون الشعراء قسمين كبيرين: قسمًا سموه أصحاب الطبع، وقسمًا سموه أصحاب الصنعة. أما الأولون فهم الذين يسيرون وفق عمود الشعر الموروث، فلا ينمقون ولا يتأنقون ولا يتكلفون ولا يُغْربون. وأما الأخيرون فهم الذين كانوا ينحرفون عن هذا العمود إلى التنميق والتأنق، أو إلى الإغراب والتكلف. ورأيت أن هذا التقسيم لا يقوم على أساس صحيح، وما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن؟ إن كل شعر متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع.
1 / 7
وهل هناك شعر لا يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه وموضوعاته ومعانيه؟ إن من يرجع إلى العصر الجاهلي يجد الشعر خاضعًا لتقاليد ورسوم كثيرة يتوارثها الشعراء؛ سواء في ألفاظه ومعانيه، أم في أوزانه وقوافيه، بحيث لا يستطيع مطلقًا أن يذعن لفكرة الطبع وما يُطوى فيها من أن الشعر فطرة وإلهام؛ فقد كان الجاهليون يصنعون شعرهم صناعة ويعملونه عملًا، وهم في أثناء هذه الصناعة والعمل يخضعون لمصطلحات ورسوم كثيرة.
ونحن لا ننكر أن الشعر في الأصل موهبة؛ غير أن هذه الموهبة لا تلبث أن تتحول عند صاحبها إلى ممارسة ودراسة طويلة لتقاليد ومصطلحات موروثة في تاريخ الفن، وهو يتقيد بهذه التقاليد والمصطلحات فيما يصنعه ويعمله تقيدًا شديدًا. وكان العرب القدماء أنفسهم يسمون شعرهم صناعة، ويصفونه بأوصاف الصناعات، وكذلك كان الشأن عند اليونان وعند الأمم الحديثة جميعًا؛ ومن أجل ذلك كان النقاد في الأمم الغربية يقرنون الشعر إلى النحت والتصوير والرقص والموسيقى؛ فمثله مثل هذه الأعمال الفنية يقوم على جهد وكدح. وهذا كله دفعني إلى أن أرفض فكرة تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، حتى في العصر الجاهلي، إذ كان الشعراء جميعًا أصحاب صنعة وجهد وتكلف؛ فقد حدثنا الرواة أن منهم من كان ينظم القصيدة في حول كامل. وليس من شك في أن من يتابع الشاعر الجاهلي يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يقبل على صناعته إقبال الصانع على حرفته؛ فهو يوفر فيها رسومًا وتقاليد كثيرة، وهذا نفسه هو الذي جعلني أتخذ كلمة الصنعة التي استخدمها النقاد القدماء للدلالة على أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي، واتخذت زهيرًا رمزًا لهذا المذهب، ووصفت فنه في شعره ووضحت ما يرتبط به في صناعته من قواعد وتقاليد. واستمرت صورة هذا المذهب عند زهير مسيطرة مع ضعف بهذه الصورة من الفن والصناعة الشعرَ الغنائِيَّ الخالص الذي كان يصحب بالعزف والضرب على الأدوات الموسيقية من العصر الجاهلي إلى العصر
1 / 8
العباسي، فإن أصحابه لا يخرون به -عادة- إلى زخرف وتنميق.
ولما انتقلت إلى العصر العباسي وجدت صناعة الشعر التقليدي شعر المديح والهجاء ترقى وتتحضر؛ فقد دارت عجلة الزمن، وانتقل صانع الشعر من البادية إلى المدينة، ودخلت في الشعر العربي في أثناء ذلك عناصر جديدة من الحضارة والجنس والثقافة، وكان المذهب القديم مذهب زهير أو مذهب الصنعة والصانعين قائمًا؛ بينما ظهر بجانبه مذهب جديد كان يعتمد على الزخرف والزينة؛ فالشعر -في رأي أصحابه- حَلْيٌ وترصيع وبديع. ومَثَّلَ هذا المذهب الجيد في القرنين الثالث والثالث مسلم بن الوليد، ثم أبو تمام وابن المعتز؛ بينما مَثَّلَ المذهب القديم بشار وأبو نواس ثم البحتري وابن الرومي. ولما خرجت إلى القرن الرابع رأيت مذهبًا جديدًا يعم فن الشعر وصناعته، وهو مذهب كان يقوم على إعادة الصور المطروقة والمعاني الموروثة بأساليب من اللف والدوران وإتيان المعنى من بعيد، ثم يحاول الشاعر بعد ذلك أن يضيف تعقيدًا إلى أساليب الزخرفة والتنميق السابقة أو يضيف تعبيرات وتراكيب شاذة من نحو غريب، أو تشيع، أو تصوف، أو تفلسف، وما لبث أبو العلاء أن أوفى بهذا المذهب إلى غايته من التعقيد الشديد في لغته وأوزانه وما كان يتصنع له من لوازم مختلفة عرضنا لها في موضعها من هذا الكتاب.
تردَّدتُ ماذا أسمي هذين المذهبين العباسيين بالقياس إلى مذهب الصنعة القديم؟ وأخيرًا رأيت أن أسميهما على التعاقب باسم مذهبي التَّصنيع والتصنُّع. والتصنيع في اللغة الزخرف والتنميق. أما التصنع فهو التطرف في التكلف وما ينطوي في ذلك من تعمّل وتعقيد، وكان قد بدا لي أن أسمي هذه المذاهب على الترتيب بأسماء الصنعة والزخرف والتعقيد؛ ولكني آثرت التسمية الأولى لأن تشابك الألفاظ فيها يدل على حقيقة دقيقة، وهي أن المذاهب الفنية في صناعة الشعر العربي لا يفترق بعضها عن بعض مفارق واسعة في المعاني والموضوعات والأوزان والقوافي؛ إنما تستقر مفارقها في الصياغة والأسلوب.
هذه هي المراحل التي مر بها الفن أو مرت بها الصناعة في شعرنا العربي.
1 / 9
فقد بدأ بمذهب الصنعة، ثم انتقل إلى مذهب التصنيع، ثم انتهى أخيرًا إلى مذهب التصنع. وجَمد الشعراء عند هذه المذاهب ولم يتجاوزوها إلى مذهب جديد. وكأنما جفَّت منابع القوة الدافعة التي كانت تُحدث المذاهب في الشعر والفن. وبحثت هذه المذاهب في الأندلس ومصر؛ فإذا شخصية مصر أتم وضوحًا في تاريخ الشعر العربي من شخصية الأندلس على نحو ما سيراه القارئ في فصلها الخاص.
وأنا لا أنكر أنه صادفني جوانبُ ماكرة خلال تأليف هذا الكتاب لاتساع الموضوع وتشعبه؛ فقد حاولت أن أرسم صورة واضحة لمذاهب الشعر العربي من أقدم عصوره إلى العصر الحديث، واضطرني ذلك إلى استخدام طائفة من المصطلحات اتخذتها لتؤدي وصف هذه المذاهب، وهي موضوعة في ثنايا الكتاب بين أقواس صغيرة.
وهذه الدراسة المستفيضة لفن الشعر وصناعته عند العرب، ولما مر به من أطوار وأحداث في عصوره وأقاليمه المختلفة جعلتني أتصل بمراجع كثيرة من دواوين الشعراء وما كتبه نقاد العرب عن فن الشعر عندهم وصناعته، وكذلك رجعت إلى كل ما وجدته يتصل بالشعر والشعراء من كتب أدب عامة أو كتب تاريخية وجغرافية، ورجعت أيضًا إلى طائفة من كتب المستشرقين وكتب النقد الأدبي الحديثة عند الغربيين. وإني لأعترف بأن كتبنا القديمة غنية غنى وافرًا بالنصوص التي تفسر ظروف الحياة الفنية تفسيرًا وافيًا. وأنا لا أزعم أني كشفت عن جميع جوانب الفن والصناعة في مذاهب الشعر العربي ومناهجه؛ وإنما حاولت ذلك ودللت عليه، غير منكر ما قد يكون في هذا البحث الجديد من إثارة إبهام أو غموض. وعلى الله قصد السبيل.
القاهرة في ١٧ من أبريل سنة ١٩٤٣ شوقي ضيف
1 / 10
الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع
الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم
الشعر صناعة
...
الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع
الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
الحطيئة
١- الشعر صناعة:
الشعر ليس عملًا سهلًا ساذجًا كما يعتقد كثير من الناس؛ بل هو عمل معقد غاية التعقيد، هو صناعة تجتمع لها في كل لغة طائفة من المصطلحات والتقاليد، ما يزال النقاد منذ أرسططاليس يحاولون أن يصفوها بما يقيمون عليها من مراصد ومقاييس، وقد يكون من الغريب أن نجعل الشعر صناعة، ولكنه الواقع، فكلمة شاعر عند اليونان القدماء معناها صانع١؛ ولذلك كنا نراهم يقرنون في أبحاثهم الشعر إلى الصناعات والفنون الجميلة من نحت وتصوير ورقص وموسيقى.
وكلمة شاعر عندنا في اللغة العربية تقترب من معناها في اليونانية، فالشاعر معناها العالم والشعر معناه العلم٢، والعلم -كما هو معروف- يدخل في باب الصنائع. وتناثر في أشعار العرب القدماء؛ ما يدل على أنهم كانوا يحسنون بأن الشعر ضرب من الصناعات؛ فقد جعلوه كبرود العَصْب٣ وكالحلل والمعاطف والديباج والوَشْي وأشباه ذلك٤. فهو -في رأيهم- يشبه صناعة الثياب، فيه الملون وغير الملون، فيه الوشي وغير الوشي، بل إننا لنراهم يسمونه صناعة، فقد رَوَى الجاحظ أن عمر بن الخطاب قال: "خير صناعات
_________
١ J.M.D Meikle John، English literature. P٢.
٢ انظر مادة شعر في لسان العرب.
٣ برود العصب: برود يمانية.
٤ البيان والتبيين: "طبعة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" ١/ ٢٢٢.
1 / 13
العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته"١؛ فالشعر في رأي العرب -كما هو في رأي اليونان- صناعة، وهي صناعة معقدة تخضع لقواعد دقيقة صارمة في دقتها بحيث لا ينحرف عنها صناع الشعر إلا ليضيفوا إليها قواعد أخرى ما تزال تنمو مع نمو الشعر وتتطور مع تطوره.
_________
١ البيان والتبيين: ٢/ ١٠١.
٢- صناعة الشعر الجاهلي: من يرجع إلى صناعة الشعر العربي في أقدم "نماذجه" يرى صعوبة هذه الصناعة، وأنها ليس عملًا غُفْلًا؛ بل هي عمل موسوم بتقاليد ومصطلحات كثيرة. وتلك آثار الشعر الجاهلي تتوفر فيها قيود ومراسيم متنوعة، ولعل ذلك ما جعل "جويدي" يقول: "إن قصائد القرن السادس الميلادي الجديرة بالإعجاب تنبئ بأنها ثمرة صناعة طويلة"١؛ فإن ما فيها من كثرة القواعد والأصول في لغتها ونحوها وتراكيبها وأوزانها يجعل الباحث يؤمن بأنه لم تستوِ لها تلك الصورة الجاهلية إلا بعد جهود عنيفة بذلها الشعراء في صناعتها. وفي دراسة "موسيقى" الشعر الجاهلي ما يفسر بعض هذه الجهود، فالقصيدة تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات، وهي تبلغ عادة أربعين بيتًا، وقد تزيد إلى مائة، وقد تنقص إلى عشرة، ويلتزم الشاعر في جميع هذه الأبيات وزنًا واحدًا يرتبط بنغماته وألحانه في "النموذج الفني" كله، كما يلتزم حرفًا واحدًا يتحد في نهاية هذه الأبيات يسمى الرَّويّ، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يوفر جهودًا ويلتزم أصولًا، من الصعب أن نلخص هنا جوانبها؛ فإن علمًا خاصًّا بل علمين يقومان على دراستها وبحث نُظمها، ونقصد علمي العروض والقافية. وهذه الجهود والأصول الصوتية الخاصة في "النماذج الجاهلية" ليست كل شيء في صناعتها؛ فهناك أصول أخرى تستمد من "التصوير" إذ الشعر الجاهلي -كما وصلتنا نماذجه- لا يعتمد أصحابه على "فن الموسيقى" فقط وما يحدثون _________ ١ Cuidi، L'araveie Anteislamique، p.٤١.
٢- صناعة الشعر الجاهلي: من يرجع إلى صناعة الشعر العربي في أقدم "نماذجه" يرى صعوبة هذه الصناعة، وأنها ليس عملًا غُفْلًا؛ بل هي عمل موسوم بتقاليد ومصطلحات كثيرة. وتلك آثار الشعر الجاهلي تتوفر فيها قيود ومراسيم متنوعة، ولعل ذلك ما جعل "جويدي" يقول: "إن قصائد القرن السادس الميلادي الجديرة بالإعجاب تنبئ بأنها ثمرة صناعة طويلة"١؛ فإن ما فيها من كثرة القواعد والأصول في لغتها ونحوها وتراكيبها وأوزانها يجعل الباحث يؤمن بأنه لم تستوِ لها تلك الصورة الجاهلية إلا بعد جهود عنيفة بذلها الشعراء في صناعتها. وفي دراسة "موسيقى" الشعر الجاهلي ما يفسر بعض هذه الجهود، فالقصيدة تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات، وهي تبلغ عادة أربعين بيتًا، وقد تزيد إلى مائة، وقد تنقص إلى عشرة، ويلتزم الشاعر في جميع هذه الأبيات وزنًا واحدًا يرتبط بنغماته وألحانه في "النموذج الفني" كله، كما يلتزم حرفًا واحدًا يتحد في نهاية هذه الأبيات يسمى الرَّويّ، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يوفر جهودًا ويلتزم أصولًا، من الصعب أن نلخص هنا جوانبها؛ فإن علمًا خاصًّا بل علمين يقومان على دراستها وبحث نُظمها، ونقصد علمي العروض والقافية. وهذه الجهود والأصول الصوتية الخاصة في "النماذج الجاهلية" ليست كل شيء في صناعتها؛ فهناك أصول أخرى تستمد من "التصوير" إذ الشعر الجاهلي -كما وصلتنا نماذجه- لا يعتمد أصحابه على "فن الموسيقى" فقط وما يحدثون _________ ١ Cuidi، L'araveie Anteislamique، p.٤١.
1 / 14
فيه من قواعد والتزامات دقيقة؛ بل هم يعتمدون على فن آخر، لعله أكثر تعقيدًا وهو "فن التصوير" ولعله ذلك ما جعل "جب" يقول: إن أدب العرب أدب رومانتيكي١؛ فهو في أقدم نماذجه يغلب عليه الخيال و"التصوير". ومن يرجع إلى نماذج امرئ القيس وهو من أقم الشعراء الجاهليين٢ سيلاحظ أنه يُعْنَى بالتصوير في شعره كأنه "التصوير" غاية في نفسه؛ فالأفكار تتلاحق في صفوف من التشبيهات، حتى تستتم هذا الفن من "التصوير" وكأنما القصائد برود يمانية؛ ففيها ألوان نقوش ورسوم على صور وأشكال كثيرة. وغير امرئ القيس من الجاهليين مثله، يعنى بالتصوير في شرعه عناية بالغة، كأنه أصل مهم من أصول صناعتهم، ونحن نسوق لقارئ قطعة من مطولته في وصف فرسه ليرى دليل رأينا؛ إذ يقول:
وقد أغتدي، والطيرُ في وُكُناتها ... بمنجردٍ قَيْد الأوابد هيكل٣
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطَّه السيل من عَلِ
كُميتٍ يَزِلُّ اللِّبد عن حال مَتْنِهِ ... كما زلت الصفواء بالمتنزَّلِ٤
على الذَّبْل جَيَّاشٍ، كأنَّ اهتزامه ... إذا جاش فيه حمية غَلْيُ مِرْجَلِ٥
مِسَحٍّ إذا ما السابحاتُ على الوَنَى ... أَثَرْنَ الغُبار بالكديد الْمُركَّلِ٦
يَزِلّ الغلام الخف عن صهواته ... ويلوي بأثواب العنيف المثَقَّلِ٧
_________
١ تراث الإسلام ترجمة لجنة الجامعيين ١/ ١٥٤.
٢ ولد امرؤ القيس حوالي عام ٥٠٠م وتوفي حوالي عام ٥٤٠م انظر،Caussin Deperceval، Essai sur l;histoire des araves، ١١، ٣٠٣-٣٢٢.
٣ أغتدي: من الغدو وهو السير مع طلوع الشمس، وكناتها: أوكارها، المنجرد: الفرس قصير الشعر، وهو من صفات الخيل الكريمة، والأوابد: الوحوش النافرة، هيكل: ضخم.
٤ كميت: أحمر اللون، يزل: يسقط، حال المتن: موضع اللبد من ظهر الفرس، والصفواء: الصخرة الملساء، والمتنزل: الموضع المنحدر.
٥ الذبل: الضمور، جياش: شديد الاضطراب والحركة، والاهتزام: صوت جوفه عند الجري، الحمى: الغلي، المرجل: القدر.
٦ مسح: كثير الجري، السابحات: الخيل السريعة، الونى: التعب، الكديد: الأرض الصلبة، المركل: الذي أثرت فيه الحوافر. يقول: إنه يسبقها حين تجري معه ولا يصيبه ما يصيبها من إعياء وتعب؛ بل يشتد جريه.
٧ الخف: الخفيف، صهواته: موضع اللبد. ويلوي بأثواب العنيف المثقل: يريد أنه يكاد يصرعه ويسقطه هو الآخر.
1 / 15
درير كخُذروف الوليد أَمَرَّه ... تتابع كفيه بخيط موَصَّل١
له أَيْطَلَا ظَبْيٍ، وساقا نَعَامة ... وإرخاء سرحان، وتقريب تَتْفُلِ٢
كأَنَّ على المتنين منه إذا انتحى ... مَدَاكَ عَرُوس أَوْ صَرايَة حَنْظَل٣
كأنّ دماءَ الهاديات بِنَحْرِهِ ... عصارةُ حِنَّاءٍ بشَيْب مُرَجَّلِ٤
فقد تراكمت التشبيهات في هذا الوصف وظهر فيها ضرب من التركيز والإيجاز، وارجع إلى قوله في البيت الأول: "قَيْد الأوابد" فقد كان القدماء يعجبون بهذه الكلمة إذ عبرت في إيجاز بالغ عن سرعة الفرس وحدته في الجري والنشاط؛ فهو قيد الأوابد كلما أرادها قَيَّدها، ولم تستطع إفلاتًا منه ولا فرارًا. وهذا الإيجاز البالغ يدل على مجهود عنيف كان يقوم به امرؤ القيس حتى يُلقي عن شعره كل إطناب فيه. ونحن لا نرتاب في أنه تعب تعبًا شديدًا قبل أن يجد هذه الكلمة الدقيقة التي تعبر عن تلك الصورة الواسعة. وحقًّا إن مثل تلك الكلمة لا يباع في الأسواق؛ بل لا بد للشاعر من مهارة خاصة حتى يستطيع أن يوفق إلى الكلمة التي ينشدها، وتلك مقدرة الشعراء الممتازين التي بها يتفاضلون. ويستمر امرؤ القيس في وصف هذا القيد؛ فإذا هو كالصخر في صلابته، وإذا شيء لا يستطيع أن يثب عليه لسرعته؛ بل كل شيء ينزلق عنه كما تنزلق الصخرة عن المطر أو كما ينزلق عنها من يريد شأوها. وهو يغلي ويجيش لازدياد عَدْوه وتوقد نشاطه. هو فرس سريع لا تقف سرعته عند حد معقول؛ فهو يصبُّ العَدْوَ صَبًّا، لا يثير نقعًا ولا غبارًا، وما أشبهه بالخروف في شدة دورانه وسرعة حركاته وهو يدور في يد الصبية دورانًا يُسْمَعُ له حفيف شديد.
_________
١ درير: سريع، وخذروف الوليد: دوارة يلعب بها الصبيان، أمره: دوره وحركه، خيط موصل: وصلت أجزاؤه بعضها ببعض.
٢ أيطلا الظبي: خاصرتاه، وإرخاء السرحان: جري الذئب، والتتفل: الثعلب، وتقريبه: جريه قفزًا ووثبًا.
٣ انتحى: جدّ في سيره، والمداك: حجر يسحق عليه الطيب، وجعله مداك عروس لأنها تستعمله كثيرًا، فيشتد بريقه ولمعانه، والصراية: الحنظلة الصفراء البراقة.
٤ الهاديات: أوائل الوحش. شبه حمرة دم الوحش بصدر هذا الفرس بحمرة الخضاب على الشيب. مرجل. مسرح.
1 / 16
وامرؤ القيس لا يكتفي بهذه الأوصاف فنحن نراه يعود إلى تشبيه خاصرة الفرس بخاصرة الظبي، وساقه بساق النعامة، ثم لا ينسى أن يتحدث عن عَدْوِهِ وسرعة انطلاقه مرة أخرى؛ فهو كالذئب أو كالثعلب في الوثب السريع. ثم ينتقل فيقول: إنه مكتنز أملس كالحجر يُسْحَقُ عليه الطيب أو كالحنظلة في ملاستها وبريقها، وقد امتزجت دماء الصيد على صدره كأنها الحناء تمتزج بالشيب.
ألا ترى إلى هذه الكثرة الغامرة من الصور والخيالات التي أحكمها امرؤ القيس في تصويره، وهي كثرة تجعلنا نؤمن بقول النقاد إنه قَرَّبَ مأخذ الكلام فقَيَّد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه١. وفي هذه المطولة وغيرها من شعر امرئ القيس أمثلة مختلفة للطباق والجناس، وهي -وإن كانت قليلة- تدل على أن الشاعر الجاهلي كان يستخدم من حين إلى حين بعض المحسنات المعنوية واللفظية التي عرفت في العصر العباسي، وأكْثَرَ الشعراء من استخدامها. وفي المفضليات قصيدة لعبد الله بن سلمة الغامدي يكثر فيها من زخرف الجناس كثرة مفرطة. ولعل في ذلك ما يدل على أن الفكرة التي تعودنا أن نفهم بها الشعر القديم والتي تذهب إلى أنه خال من الصنعة فكرة غير صحيحة؛ فإن هذا الشعر ينزع به صاحبه إلى ضرب من الجمال في التعبير؛ إذ يملؤه بالصور والتشبيهات، ويطلب أن يعجب به الناس من حوله وأن يقع منهم موقعًا حسنًا، موقع الثياب الملونة، أو الثياب اليمنية المنمَّقة.
على أننا لا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي، عند زهير وأضرابه، حتى نجدهم، -على نحو ما سنرى بعد قليل- يعقِّدون في هذا الجانب الفني من التصوير بما يودعون فيه من ضروب مهارة كثيرة.
_________
١العمدة لابن رشيق "طبعة أمين هندية" ١/ ٦٠.
٣- الصناعة الجاهلية مقيدة: كان الشاعر الجاهلي يحاول أن يوفر في شعره كثيرًا من "القيم الصوتية
٣- الصناعة الجاهلية مقيدة: كان الشاعر الجاهلي يحاول أن يوفر في شعره كثيرًا من "القيم الصوتية
1 / 17
والتصويرية" وكان يلقى عناءً شديدًا في هذا التوفير؛ إذ نراه يتقيد بقيود كثيرة، لا تقف عند الموسيقى والتصوير؛ بل تتعدى ذلك إلى الموضوعات والألفاظ والمعاني، وقد عبَّر عن هذا الجانب في أشعاره يقول امرؤ القيس١:
عُوجَا على الطلل الْمُحِيلِ لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خِذام٢
ويقول زهير:
ما أرانا نقول إلا مُعارا ... أو مُعادًا من لفظنا مَكْرورا
ويقول عنترة:
هل غادر الشعراء من مُتَرَنَّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ٣
وما يقوله امرؤ القيس من أنه يريد أن يبكي كما بكى ابن خذام، وما يقوله زهير من أن الشعراء يبدئون ويعيدون في ألفاظهم، وما يقوله عنترة من أن نهج الشعراء في قصائدهم مطرد على وتيرة واحدة، كل ذلك دليل على أن الشاعر القديم كان يأخذ فنه بقيود ورسوم كثيرة في اللفظ والموضوع والنهج العام. ومن يرجع إلى طوال النماذج الجاهلية ويترك المقطعات القصيرة يلاحظ في وضوح أنها تأخذ نمطًا معينًا في التعبير والأداء، وكأنما العصر الجاهلي نفسه هو الذي أعدَّ "للقصيدة التقليدية" عند العرب قصيدة المدح والهجاء؛ فإن الشعراء كانوا يحرصون في كثير من مطولاتهم منذ العصر الجاهلي على أسلوب موروث فيها؛ إذ نراها تبتدئ عادة بوصف الأطلال وبكاء الدِّمَن، ثم تنتقل إلى وصف رحلات الشاعر في الصحراء، وحينئذ يصف ناقته التي تملأ حسه ونفسه وصفًا دقيقًا فيه حذق ومهارة، ثم يخرج من ذلك إلى الموضوع المعين من مدح أو هجاء أو غيرهما، واستقرت تلك "الطريقة التقليدية" في الشعر العربي، وثبتت أصولها في مطولاته الكبرى على مر العصور.
_________
١ العمدة لابن رشيق ١/ ٥٤، وديوان امرئ القيس "طبع دار المعارف" ص١١٤.
٢ عوجا: اعطفا. المحيل: الذي أتى عليه حول. ابن خذام: شاعر قديم يقال إنه بكى الديار قبل امرئ القيس.
٣ انظر مطلع معلقته. المترنم: الشيء يترنم به، يريد أن الشعراء لم يتركوا شيئًا إلا ترنموا به.
1 / 18
وهذا النمط المعين في صنع المطوَّلات القديمة يدل دلالة قاطعة على أن صناعة الشعر استوى لها حينذاك غير قليل من القيود والتقاليد؛ إذ نرى القصائد تتحد أنغامها، وكان عنترة يشكو من هذا الاتحاد، كما تتحد أساليبها ولغتها وتراكيبها، وكما تتحد معانيها وصورها وأخيلتها، وكان زهير يشكو أيضًا من ذلك؛ فما يقوله ابن خذام في بكاء الأطلال يأخذه عنه امرؤ القيس، وما يقوله امرؤ القيس يأخذه عنه بقية الشعراء، وإن جَدّ معنى في الطريق كوصف الأطلال عند طرفة١ بالوشم أخذه زهير٢ وغير زهير.
وهم كذلك في وصف الناقة يتداولون أوصافها، وإن حدث معنى في الطيق كوصف زهير ناقته بأنها نعامة أو حمار وحشي، تناوله بيد، ونسج على منواله النابغة وغير النابغة. وقد تتبع النقاد العباسيون هذ الجانب من صناعة الشعر العربي القديم، وهو جانب طريف يكشف لنا عن حقيقة الشعر الجاهلي وحقيقة صناعته، وأنها لم تكن مستودعًا للتجارب الفردية؛ بل كانت مقيدة بمصطلحات كثيرة لا في اللغة والنحو والعروض فقط، بل في الموضوع والمواد التي تكونه، وما يختاره الشاعر في صنع نماذجه من أدوات تصويرية أو أسلوبية أو معنوية.
_________
١ يقول في مطلع معلقته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
٢ يقول زهير في معلقته:
ودار لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشم في نواشر معصم
٤- الطبع والصنعة: هذه المصطلحات المختلفة التي كان يتقيد بها الشاعر الجاهلي تجعلنا نؤمن بأنه لم يكن حرًّا في صناعة شعره يصنعه كما يريد، فإن حريته كانت معطلة إلى حد ما؛ إذ كان يخضع لتقاليد تتناول ما يقوله وكيف يقوله، تتناول ما ينظم فيه والطريقة التي ينظمه بها، وبعبارة أخرى تتناول الموضوعات التي يعالجها وما يتخذه فيها من طرق فنية في التعبير والموسيقى والتصوير. وإذن
٤- الطبع والصنعة: هذه المصطلحات المختلفة التي كان يتقيد بها الشاعر الجاهلي تجعلنا نؤمن بأنه لم يكن حرًّا في صناعة شعره يصنعه كما يريد، فإن حريته كانت معطلة إلى حد ما؛ إذ كان يخضع لتقاليد تتناول ما يقوله وكيف يقوله، تتناول ما ينظم فيه والطريقة التي ينظمه بها، وبعبارة أخرى تتناول الموضوعات التي يعالجها وما يتخذه فيها من طرق فنية في التعبير والموسيقى والتصوير. وإذن
1 / 19
فالشعر الجاهلي ليس تعبيرًا فنيًّا حرًّا؛ بل هو تعبير فني مقيد، ليس تعبير الطبيعة والطبع، بل هو تعبير التكلف والصنعة، أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، والتي نرى امتدادها في العصر الحديث١؛ فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح؛ فإن أقدم آثار الشعر العربي ونماذجه لا تؤيد هذا التقسيم الذي لا يتفق وطبيعة الشعر العربي وحقائقه؛ فكله شعر مصنوع فيه أثر التكلف والصنعة، ولعل الجاحظ أول من أذاع هذه الفكرة ودعا إليها حين كان يعارض الشعوبية في بيانه؛ فادعى عليهم أنهم يقولون الشعر عن صناعة، أما العرب فيقولونه عن طبع وسجية؛ إذ يقول: "وكل شيء للعرب؛ فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراخ أو في حرب؛ فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا٢ وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيِّده على نفسه ولا يُدَرِّسُه أحدًا من ولده"٣.
وليس من شك في أن الجاحظ بالغ في وصف الموهبة العربية والطبع العربي ليرد على الشعوبية؛ فإذا العرب يقولون بديهة وارتجالًا على خلاف غيرهم من الشعوب؛ فإنهم يقولون متكلفين، وأكبر الظن أنه لم يكن جادًّا حين ذهب هذا المذهب، إنما هو بصدد أن يفضل العرب على غير العرب، ولو ترك نفسه على طبيعتها في البحث والتحقيق لرأيناه يثبت للعرب صعوبة في القول، وبخاصة في صنع الشعر فهو نفسه يقول في البيان والتبيين: "من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا "كاملًا" وزمنًا طويلًا يردِّد فيها نظره
_________
١ انظر كتاب شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي لعباس محمود العقاد؛ فقد هاجم كثيرًا من الشعراء المحدثين وعلي رأسهم شوقي بحجة أنهم من شعراء الصنعة وليسوا من شعراء الطبع.
٢ أرسالًا: أفواجًا.
٣ البيان والتبيين ٣/ ٢٨.
1 / 20
ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه؛ فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات والمقلدات والمنقَّحات والمحكمات ليصير قائلها فحلًا خِنذيذا وشاعرًا مفلقًا"،١ ويقول أيضًا: "كان زهير بن أبي سُلْمى يسمِّي كبار قصائده الحوليات؛ ولذلك قال الحطيئة: خير الشعر الحولي المحكَّك، وقال الأصمعي: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جَوَّدَ في جميع شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم، واستفرغ مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام واغتصاب الألفاظ لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهوًا ورَهْوًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالًا"٢.
وإذن فالجاحظ ينقض دعواه بما يذكره من أنه وُجدتْ طائفة عند العرب كانت تكد طبعها في عمل الشعر وصنعه، وكانت تقابلها طائفة أخرى لا تبلغ من التكلف غايتها، وهي طائفة المطبوعين كما يسميهم الأصمعي، وعبر ابن قتيبة عن الطائفتين في صورة أوضح؛ إذ يقول: "ومن الشعراء المتكلف والمطبوع؛ فالمتكلف هو الذي قَوَّمَ شعره بالثقات، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر، كزهير والحطيئة٣". وهذا التقسيم من حيث هو صحيح؛ ولكن ينبغي أن نتلقاه بشيء من الحذر، فإن هؤلاء المطبوعين لم يكونوا يلغون التكلف إلغاء. كما أن هؤلاء المتكلفين لم يكونوا يلغون الطبع إلغاء؛ ولذلك كنا نرى أن نعمم التكلف في الشعر القديم ونجعله على درجات يبلغ أعلاها عند زهير وأصحابه الذين كانوا يعملون شعرهم عملًا، ويأخذونه بالتفكير الدقيق، والبحث والتحقيق.
_________
١ البيان والتبين ٢/ ٩.
٢ البيان والتبين ٢/ ١٣.
٣ الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبعة دي جويه" ص١٧.
1 / 21
٥- الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:
أكبر الظن أننا لا نجدد حين نرفض الطبع في الشعر، وأن يقسَّم على أساسه؛ إنما ندعو إلى ذلك حتى يرسخ عندنا هذا المبدأ الذي يجعل الشعر صناعة وفنًّا تحاكَى فيه "المثل الفنية" الممتازة التي يحتوى كل مثال منها على صفات وخصائص تَعِبَ أصحابها في التعبير عنها. أما "المثل الفنية" المطلقة من غير قيود ولا حدود؛ فإنها لا توجد في الشعر ولا في أي ضرب من ضروب الفن. كل نموذج فني هو عمل متعدد الصفات قد شقى صاحبه في إخراجه، وبذل فيه كل ما يستطيعه من جهد. ونحن نصطلح على تسمية هذا الجهد في الشعر -مهما يكن ضعيفًا- باسم الصنعة، وقد وجدت هذه "الصنعة" أو وجد هذا الجهد في نماذج الشاعر الجاهلي؛ بحيث يمكن أن نقول: إن "الصنعة" أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي؛ فهي توجد في جميع نماذجه القديمة، وإن كانت تتخذ شكلًا بسيطًا عند بعض الشعراء؛ بينما تتعقد تعقدًا شديدًا عند آخرين؛ ممن يريدون أن يستوعب فنهم مقدرات واسعة من الحذق والمهارة.
ومن الخطأ أن نظن -كما يظن كثير من الناس- أن الحياة الأدبية في العصر الجاهلي كانت ساذجة بسيطة؛ فقد كانت معقدة ملتوية شديدة الالتواء، ولم تكن على هذا النحو من اليسر والسهولة الذي يجعل الشعراء يصدر عنهم شعرهم صدور الفطرة والسليقة، كما يصدر الضوء عن الشمس والشذى عن الزهرة؛ بل كانوا يتكلفون في شعرهم فنونًا من التكلف، إذا كانوا عُمَّالًا صناعًا يعملون شعرهم عملًا، ويصنعونه صناعة ويتعبون فيه أنفسهم تعبًا شديدًا.
وكان كل شيء في العصر الجاهلي يعدُّ لظهور هذا التكلف في الشعر
1 / 22
أو ظهور "الصنعة"؛ فقد كان الشعراء أنفسهم يلتزمون لوازم كثيرة في صناعة شعرهم، كان الناس من حولهم يراقبونهم ويشجعونهم على التفوق والإجادة؛ وكأنما كان هناك ذوق عام يدعو الشعراء إلى التجويد والتحبير، يقول الجاحظ: "وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص إلى حبَّات القلوب وإلي إصابة عيون المعاني ويقولون: أصاب الهدف؛ إذا أصاب الحق في الجملة، ويقولون قَرْطَسَ فلان وأصاب القرطاس، إذا كان أجود إصابة من الأول، فإذا قالوا: رمى فأصاب الغُرَّةَ وأصاب عين القرطاس؛ فهو الذي ليس فوقه أحد، ومن ذلك قولهم: فلان يَفُلُّ الْحَزَّ ويصيب المفصل ويضع الهِناء مواضع النقب"١
ولعل ما يفسر ذلك أيضًا أنهم كانوا يسمون الشعراء بأسماء تصور مهاراتهم وإجادتهم؛ فربيعة بن عدي كان يسمَّى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقَّه٢ وكان طفيل الخيل يسمَّى المحبِّر لتزيينه شعره٣، وكان النمر بن تولب يسمَّى في الجاهلية الكيس لحسن شعره٤، وكذلك سُمِّيَ النابغة باسمه لنبوغه في شعره٥، كما سمي المرقش باسمه لتحسينه شعره وتنميقه٦، وسمي علقمة بالفحل٧ لجودة أشعاره، وبجانب ذلك نجد أسماء أخرى مثل المثقب والمنخل والمتنخل والأفوه. وقد سموا القصائد بأسماء تصور هي الأخرى مبلغ تفوقهم وإجادتهم فسموها اليتيمة٨ وسموها السموط٩ وسموها الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات١٠.
وكل ذلك يدل على أن الشعراء كانوا يمتحنون وسائلهم ويجربونها، وما يزالون يبحثون عن "الأدوات" التي تكفل لشعرهم التفوق والنجاح، حتى
_________
١ البيان والتبيين ١/ ١٤٧. وقولهم: فلان يفل الحز ويصيب المفصل أخذوه من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثل للمصيب الموجز، والهناء: القطران، كانوا يضعونه على النقب جمع نقبة وهي أول ما يبدو من الجرب في الإبل.
٢ أغاني طبعة دار الكتب ٥/ ٥٧.
٣ المفضليات "طبعة Lyall"
١/ ٤١٠.
٤ الشعر والشعراء ص١٧٣.
٥ العمدة لابن رشيق ١/ ١٣٧.
٦ المفضليات ١/ ٤١٠، ١/ ٤٨٥.
٧ أغاني "طبعة ساسي" ٢١/ ١١٢.
٨ أغاني "طبعة دار الكتب" ١٣/ ١٠٢.
٩ أغاني "ساسي" ٢١/ ١١٢.
١٠ البيان والتبيين ٢/ ٩.
1 / 23
لنراهم يفخرون بإجادتهم ومهارتهم، يقول كعب بن زهير يخاطب الشماخ وأخاه مزرِّدًا١:
فمن للقوافي شَانَها من يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوَّز جَرْوَلُ٢
كفيتك لا تلقى من الناس واحدًا ... تنخل منها مثلما نتنخَّلُ٣
نُثقِّفها حتى تلين متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثَّلُ٤
فكعب وجرول أي الْحُطَيئة ينتخلان شعرهما، ويأخذانه بالثقاف والتنقيح، ويجمعان له كل ما يمكن من وسائل التجويد والتحبير، وكذلك كان يصنع صنيعهما الشماخ ومزرد الذي رد على كعب يقول٥:
فإن تَخْشِبَا أخشب وإن تتنخَّلا ... وإن كنت أفتى منكما أتنخَّل٦
وإن الباحث يشعر كأن هذا التنخل من عمل الشعراء جميعًا؛ فهم مشتركون في الإجادة، بل هم يجدون أي صعوبة في عملهم الفني، ولعل ذلك ما جعل الحطيئة يقول٧:
الشعر صعب وطويل سُلَّمه ... إذ ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلَّت به إلى الحضيض قدمُه ... يريد أن يعربه فيُعْجِمه
وليس من شك في أن الحطيئة والشعراء من حوله كانوا يلقون عنتًا شديدًا في رقي هذا السلم الذي كان يستلزم منهم جهدًا فنيًّا خاص. حتى يستطيعوا أن يبلوا الشأو الذي يريدونه.
_________
١ أغاني "دار الكتب" ٢/ ١٦٥.
٢ ثوى وفوز: مات.
٣ تنخل: اختار.
٤ نثقفها: نقوّمها كما تقوم السهام.
٥ أغاني "دار الكتب" ٢/ ١٦٦.
٦ تخشبًا: تنظمًا بغير تكلف.
٧ أغاني "دار الكتب" ٢/ ١٩٦.
٦- زهير ومذهب الصنعة: كان التكلف ظاهرة عامة في الشعر القديم، أو بعبارة أخري كانت "الصنعة" مذهبًا عامًّا بين الشعراء، ولعل خير شاعر يمثل هذا المذهب ويفسره
٦- زهير ومذهب الصنعة: كان التكلف ظاهرة عامة في الشعر القديم، أو بعبارة أخري كانت "الصنعة" مذهبًا عامًّا بين الشعراء، ولعل خير شاعر يمثل هذا المذهب ويفسره
1 / 24
في العصر الجاهلي هو زهير صاحب الحوليات؛ فقد كان يأخذ شعره بالثِّقاف والتنقيح والصقل، وكأنه يفحص ويمتحن ويجرب كل قطعة من قطع نماذجه؛ فهو يعنى بتحضير مواده، وهو يتعب في هذا التحضير تعبًا شديدًا.
ومن يتتبع القدماء في درسهم له يجدهم يلاحظون أنه خرج من بيت شعر، إذا كان زوج أمه أوسن بن حجر شاعرًا، وكذلك كانت أخته شاعرة، وكان ابنه كعب شاعرًا مشهورًا، وقد مدح النبي ﷺ بقصيدة معروفة، ولكعب أخ يسمى بجيرًا كان شاعرًا أيضًا١، وإذا استمررنا وجدنا لكعب أبناء وأحفادًا من الشعراء؛ فزهير شاعر خرج من بيت شعر. وإذا رجعنا إلى ترجمة الحطيئة في الأغاني وجدناه يقول لكعب: إنه لم يسبق من أهل بيتنا إلا أنا وأنت، وتتفق الروايات على أن الحطيئة كان راوية لزهير، وأن هُدْبة كان راوية للحطيئة، وأن جميلًا كان راوية لهدبة، وأن كثيِّرًا كان راوية لجميل٢.
وإذن فنحن أمام مدرسة في الشعر أستاذها زهير وتلامذتها جماعة، تارة يكونون من من أهل بيته، وتارة لا يكونون، وهي مدرسة "كانت تعتمد على الأناة والروية، وتقاوم الطبع والاندفاع في قول الشعر مع السجية؛ فكثر عندها التشبيه، والمجاز والاستعارة، واتكأت في وصفها على التصوير المادي، وأن يأخذ الشاعر نفسه بالتجويد والتصفية والتنقيح ثم التأليف"٣. قد يقول قائل وأين امرؤ القيس وما موضعه من هذه المدرسة، وقد عرفناه يكثر من التشبيهات، كما نرى في معلقته؛ فهو إذن رأس المدرسة أو هو أحد أفرادها. والقياس منكسر فإن الطريقة البيانية عند امرئ القيس تعتمد -كما رأينا- على تراكم التشبيهات، وأن تخرج الأبيات في صفوف منها متلاحقة، وتلك مرتبة أولى من مراتب الطريقة البيانية، أما حين نتقدم عند زهير؛ فإننا نجد هذه الطريقة تنعقد وكأنها تغاير ما ألفناه عند امرئ القيس مغايرة تامة.
_________
١ أغاني "دار الكتب" ١٠/ ٣١٤.
٢ أغاني "دار الكتب" ٨/ ٩١.
٣ انظر كتاب "في الأدب الجاهلي" لطه حسين ص٢٨٦.
1 / 25
ولعل أول ما يسترعى الباحث في عمل زهير، أنه يُعْنَى بتحقيق صوره فهو لا يأتي بها متراكمة، كما كان يصنع امرؤ القيس؛ بل يعمد إلى تفصيلها وتمثيلها بجميع شعبها وتفاريعها، وكأنه يبحثها ويحققها. وانظر إلى قوله في وصف بعض النسوة١:
تنازعها المها شَبَهًا ودُرُّ النـ ... ـحور وشاكهت فيها الظباء٢
فما ما فُوَيْقَ العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاء٣
وأما المقلتان فمن مَهاةٍ ... وللدُّرِّ الملاحة والصفاءُ
فإنك تلاحظ أن زهيرًا لم يكتفِ بأن يشبه صاحبته بالظباء والمها والدر جملة بل رجع إلى تفصيل ذلك وتحقيقه؛ فجعل للظباء ما فويق العقد وجعل للمهاة عينيها وللدر الملاحة والصفاء. وهذا هو معنى ما نقوله من أن زهيرًا كان يحقق صورة، ولم يكن يعتمد في هذا التحقيق على اللغة وحدها؛ بل كان يعتمد قبل كل شيء على أن تكون الصورة واسعة هذه السعة التي تتضمن التفصيل والتفريغ وكأنه يريد أن يحملها أكثر طاقة ممكنة في التعبير والتمثيل. وكان لزهير مهارة خاصة في استخدام الألفاظ والعبارات المثيرة التي تجعل المنظر كأنه يتحرك تحت أعيننا، وانظر إلى قوله في وصف صيد وحكايته للغلام الذي أنبأه به٤:
إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرةً ... متى نرهُ فإننا لا نخاتله٥
فبينا نُبغِّي الصيد جاء غلامنا ... يدبُّ ويخفى شخصه ويضائله٦
فقال: شياهٌ راتعات بقفرةٍ ... بمستأسد القُرْيان حُوّ مسايلُهْ٧
_________
١ ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص٦١.
٢ المها: بقر الوحش. شاكهت: شابهت.
٣ أدماء: ظبية بيضاء. شبهها بالظباء في طول العنق.
٤ ديوان زهير ص١٣٠.
٥ غدونا: بكرنا. نبتغي: نطلب. نختاله: نمكر به ونصيده دون أن نجاهره.
٦ نبغي: نبتغي. يدب: بمشي هونًا. يضائله: يصغره.
٧ الشياه هنا: الأتن. المستأسد من النبت: الذي طال وتم. القريان: مجاري المياه.
الحو: النبات الضارب إلى السواد.
1 / 26