بعد صدوره، جائزة الأوسكار لهذا العام؛ فإنه لم يترشح إلا لجوائز قليلة، غير أن هذا لا ينفي عظمة الفيلم الذي يمكن اعتباره واحدا من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما عن الفضاء منذ فيلم ستانلي كوبريك الشهير «أوديسا الفضاء 2001»، الذي أنتج عام 1968؛ ربما لأنه يعيد طرح نفس الأسئلة المتعلقة بالزمن، وبشكل أكثر معاصرة ودقة.
أهمية الفيلم تنبع من أهمية مخرجه؛ فعلى الرغم من أن نولان يميل لإخراج أفلام الإثارة والخيال العلمي، فإنه استطاع أن يحملها بعشرات الأسئلة الفلسفية، وهو ما تبدى واضحا في ثلاثية «باتمان»، التي تتجاوز كونها إعادة تقديم لقصص مصورة، إلى أبعد من ذلك؛ وهو أيضا ما يمكن ملاحظته في الفيلم المهم «استهلال
inception » الذي قام ببطولته ليوناردو دي كابريو، أو في «أرق
Insomnia » الذي قام ببطولته آل باتشينو وروبين وليامز، أو في فيلم «العظمة
The Prestige » الذي قام ببطولته كريستيان بيل، أو فيلمه الأهم الذي كان طريق تعريف الجمهور به «تذكار
Memento »؛ وهو ما جعل أربعة من أفلامه في قائمة الأكثر تحقيقا للأرباح في التاريخ، وثلاثة من أفلامه في أول ثلاثين فيلما من قائمة أفضل 250 فيلما في التاريخ ، كما أن اسمه دائما يأتي في قائمة متقدمة دائما في قوائم أفضل المخرجين في العالم.
يتجاوز «النجومي» كونه فيلم خيال علمي، إلى كونه فيلما عن الإنسان بكل تعقيداته، بكل أسئلته الفلسفية، عن صراع الوجود والخلود والرغبة في البقاء، عن علاقته بحاضره ومستقبله، وعلاقته بأبنائه التي تدفعه للصراع من أجل الحياة، وربما لو نزعنا الجانب العلمي من الفيلم واكتفينا بالنظر إلى العلاقة بين الأب والابنة لوجدنا أنفسنا أمام شريط سينمائي في غاية الرهافة. لم يقدم الفيلم كائنات فضائية، ولا روبوتات إلا روبوتا واحدا، ولا معارك طاحنة، ولا صراعا بين أشرار وخيرين بالمعنى الذي نشاهده في الأفلام الهوليوودية، لم يقدم فيلم حركة كما ينتظر من أفلام الخيال العلمي؛ لكنه يقدم كثيرا من الأسئلة المتعلقة بالآخر وبعلاقتنا بالآلة وبتأثير التكنولوجيا على حياة الإنسان، التي قد تقوده إلى تدمير نفسه. «النجومي» هو فيلم الأسئلة الصعبة بامتياز، الأسئلة التي بلا إجابة، الأسئلة التي تصحبك بعد انتهاء الفيلم الذي يتجاوز الساعتين، وتدعوك للدخول في دوامة الزمن التي دخلها الفيلم. الزمن هو سؤال الفيلم الأول، وهو سؤال كل أفلام نولان في المقابل.
ثمة سؤالان مهمان تطرحهما سينما كريستوفر نولان؛ أولهما: الزمن بتحولاته، والثاني: العلاقة الأبدية بين الخير والشر. يمكن أن يتداخل السؤالان، ويكون أحدهما إجابة عن الآخر، غير أن السؤالين يتكرران بشكل ملح - ربما بحثا عن إجابة - بداية من فيلمه الأول «التابع»، وانتهاء بفيلمه الملحمي «النجومي».
سؤال الزمن هو السؤال الأول والأبرز لدى نولان، فالماضي والذكريات جزء أساسي في تكوين كل شخصياته؛ ففي «تذكار»، الذي يحكي قصة شخص مصاب بفقدان ذاكرة جزئي، نحن أمام شكل مبتكر جديد للسرد؛ حيث تبدأ المشاهد من النهاية، ومع كل مشهد جديد نرى مشهدا قديما، فتأتي كل المشاهد بترتيب زمني معاكس؛ لذا فنحن نتعامل بشكل مختلف هنا مع الزمن. في فيلم «أرق» نحن أمام تحد حقيقي للزمن، فنحن في مدينة بلا ليل، وبطل الفيلم «آل باتشينو» يسابق الزمن للكشف عن جريمة قتل، فيتورط في جريمة بالمقابل. أما «استهلال»، فنحن أمام درس سينمائي في تفتيت الزمن؛ حيث يدور حول شخص يقوم بزرع الأفكار في عقول الناس والدخول إلى أحلامهم، ليبدو السؤال الأهم عن العلاقة بين عالمي الأحلام والواقع، وعن طبقات الحلم المختلفة، عن الفرق الشاسع بين الزمن الواقعي والزمن في الحلم، عن الولوج إلى الزمن وتثبيته لتغيير الواقع من خلال واقع مواز في الأحلام. أما «النجومي»، فتقوم فكرة الفيلم بالأساس على السفر عبر الزمن لإنقاذ الأرض، في رحلة عبر الفضاء بصحبة نظرية النسبية لأينشتاين والنجوم النيوترونية، وحركة دوران الثقوب السوداء في الفضاء، وتمدد الزمن، وعشرات المصطلحات العلمية التي تذوب في القصة والحبكة الدرامية الإنسانية؛ ولهذا يستعير نولان في الفيلم مقطعا من قصيدة الشاعر الويلزي «ديلان توماس» على لسان أحد أبطاله، يقول فيه:
لا تدخل في ذلك الليل اللذيذ، فحري بالشيخوخة أن تشتعل وتهيج لحظة انقضاء النهار؛ صب جام غضبك، صب جام غضبك على احتضار الضوء.
صفحة غير معروفة