75

أرخص ليالي

تصانيف

ورفع الشيخ محمد صوته بختام الصلاة، وكأنما يرد عليه: اللهم صل وسلم وبارك.

ولم يجز هذا على الحانوتي، فعاد يقول: بقى بذمتك أنت على وضوئك يا شيخ محمد؟ - على سيدنا محمد وعلى ... يا أخي هو مافيش إسلام، وعلى آله وصحبه وسلم.

وهمهم أبو المتولي بكلام لم يفهمه هو نفسه، ثم مد يده وحمل اللفافة فوقها، وكان الشيخ قد أنهى الختام على عجل، فقال وهو يمسح وجهه بكفيه ويقبلهما: يبقوا كام بقى يا عم متولي؟

وتوقف الحانوتي وقد عاوده ملله، وازدادت عصبيته وكأنه يحمل فوق يديه أرطالا من حديد، وصمت لحظة صمت اليائس؛ فقد عمل كل ما في وسعه ليتجنب الخوض في مثل ذلك الكلام، ولكن ما باليد حيلة، وببطء قال: بدهه يا شيخ محمد، يبقوا سبعة. - سبعة؟! سبعة إيه؟! وحياة الست مسكه وأم هاشم وأولية الله تمانية يا مبروك. - سبعة يا شيخ محمد والله العظيم سبعة. - دانت صاحب عيال يا عم متولي، وحياة سيدي، الله، أدحنا فيها، الواد اللي جبته من الحنفي الصبح، واحد، والبنت بنت عمك. - اسمع يا شيخ محمد، علي الطلاق سبعة. - أ ... أ ... أ ... لا حول ولا قوة إلا بالله، مش يا مبروك. - علي الطلاق سبعة. - أف، أنت وذمتك يا شيخ، الله وكيلك. - وصلك كام يا شيخ محمد؟ - حتة بعشرة يا مبروك.

وانتظر الحانوتي حتى يحسب الحسبة، ثم قال: يبقى باقيلك من حساب السبعة أربعة ساغ. - بس ... بس ... يعني ... - بس إيه؟ - بس وأنت سيد العارفين يا عم متولي، النهاردة رطل القوطة بكذا، والبامية بكيت، ولا ليالي ولا مياتم، والحالة كرب، والولية امبارح اشتريت لها سبرين. - طماطم إيه! وهباب إيه! يا شيخ اصطبح وقول يا فتاح، الصيف أهو طالع، والنزلة جايه ومش حتلحق تحوش عن قفاك، خليها على الله، خد.

وتردد الشيخ محمد، وهو يكن يده، ثم يفردها، ولكنه توكل على الله، وتناول ما في قبضة الحانوتي وتحسس الشلن الورق، وأدخل رقبته في الجبة القديمة، وفرفط غمزاته ولمزاته، وفركه بين أصابعه، وطبقه، وكاد يرده، ولكنه سحب ناعما، وحدق من خلال الضباب الذي أمام عينيه، وقال: طب هات ساغ كمان يا مبروك.

ولم يسمعه أحد، فأبو المتولي كان قد اختفى باللفافة في زحمة الناس.

حصة

الفكرة شيء إنساني عجيب، فهي دائما تتطلب عملا وجهدا، وأحيانا تخطر للإنسان فكرة، فيظل يستضعفها ويهملها وهو كاره ما وراءها من عمل حتى يقتلها، وأحيانا تخطر له فكرة فيها جدة، وفيها روعة ولذة، فتقلب هدوءه رأسا على عقب، وتنفخ فيه أطنانا من النشاط.

وإسماعيل بيه الماحي واتته فكرة، وكان لا يدري من أين جاءته، ولا أي وحي هبط عليه بها، وكل الذي يدريه أنه كان ممددا في فراشه في الحجرة الزرقاء البحرية من «الفيللا» أو على الأقل هكذا وجد نفسه حين استيقظ، وهو لم يستيقظ مرة واحدة كخلق الله إنما استيقظ مرات، وكان في كل مرة يراود نفسه: هل يصحو أم ينام كما كان؟ وإذا صحا فماذا يفعل، وماذا وراءه؟

صفحة غير معروفة