وأخذ يفرك كفيه، ويطبطب على فخذه، ثم يروح بالجريدة عن وجهه الذي احتلته ابتسامة واسعة بانت لها أسنانه، وقد اسود صفارها القديم.
وبين الفينة والأخرى يردد: والله عال، أهو واحد من دمياط نفع، والله عال، واحد نفع.
وأقول له إننا كلنا نفعنا، ولكنه لم يكن معي، وإنما كان يستغرقه شعور قوي يشيع فيه أحاسيس لا عهد له بها.
وجاءت المعادي، وكاد ينسى أنها محطته، وشد على يدي بحرارة وهو يشكرني بأنصاف كلمات، ولا أدري على أي شيء كان يشكرني، وودعته حتى باب العربة، وابتعد القطار بي، وهو يلوح بيده، وفرحة كبيرة تقلقل خطواته، والابتسامة تتموج في وجهه، وسعادة غامرة تطفح من عينيه.
كان كالطفل الذي نجح لتوه في الشهادة الابتدائية.
على أسيوط
- يا سيدي، والنبي يا سيدي، يا ناس، يا ناس، حرام عليكم، دانا جي من أسيوط، جي ماشي يا ناس، على رجلي، وبقالي هنا سبوع، سبع ليالي بايت، نايم على الرصيف قدام المستشفى، دانا مريض، مريض يا عالم، غلبان يا هوه ، ورجلي ما عدت طايق ريحتها، المدة ضربت في وركي، دا حرام، والنبي دا حرام، واللي خلق النبي دا ما يخلصوش.
وقبل أن تمتد أذرع «التومرجية» القوية تنتزعه، وتعيده من حيث جاء، تململ الطبيب في كرسيه، وقطع الحديث الدائر بينه وبين الحكيمة، واستدار إلى المناكف الجديد.
وعبر الطبيب على الوجه الصدئ الذي أمامه، والذي كله شعرات وفجوات وغضون، عبر في سرعة وفي ملل، فالمترددون على المستشفى كلهم ملبدو الوجوه بغيوم الحاجة والمرض، ولكن الطبيب توقف قليلا، متفرجا، عند ملاءة السرير القديمة التي اسود لونها الأصفر الباهت، وامتلأت بالبقع والخروق، والتي عمم الرجل بها رأسه، وتدلى طرفها بجانب وجهه كذيل ملطخ بالوحل لكلب عجوز.
ورمق الطبيب في قليل جدا من الدهشة رجله الملفوفة في عدد كثير من الخرق والأشرطة والجوارب القديمة من مختلف الألوان والأحجام، وقد كست رجله من قمة أظافرها إلى مفرق فخذيه، فضخمت الرجل وكبرتها، حتى أصبحت كصبي مستقل صغير يرتكز عليه الرجل في ناحية، ويستند في الناحية الأخرى إلى فرع شجرة غليظ ملتو غير مشذب.
صفحة غير معروفة