107

أرخص ليالي

تصانيف

ولا يستطيع إنسان أن يحدثه قبل أن يرتشف في بطء حكيم، وفي خبرة الكييف القطرات الأول من الشاي ذي الكيان الأسود.

وكان الناس يقولون إن في شايه رائحة الجاز، وأنه يلقط من الزيت الذي لا تخلو منه يده، ولكن كل من شاركه مرة كان يؤكد أن الجاز - إن كان هناك جاز - يضفي على الشاي نكهة ذات مزاج لذيذ، ويجعل مذاق العنبر.

وكان الأوسطى محمد لا يتحدث كثيرا، وإذا تكلم فإنما لينفض متاعبه، ويروي كيف حرنت طلمبة الماء، أو كيف انزلق السير عن الطارة، أو كيف ضبط ذات مرة امرأة من حاملات المقاطف تحاول دخول غرفة العدة، وهم ببعثرة ما تحمله لولا تدخل الناس.

وكان إذا انحرف الحديث وخرج عن المكنة، ينطق بكلمة أو كلمتين، وكان كلامه في المليان فهو لا يعجبه الحال المائع، ولا الثرثرة التي لا فائدة منها.

وكان مستمعوه القليلون - وهم دائما قليلون - ينظرون إلى وجهه الذي احترق الجزء الأسفل منه، وبقي الجلد مكانه سميكا لا ينبت فيه شعر ذقنه التي كثيرا ما يتركها تنبت وتترعرع، ولا تفلت العيون شاربه الذي لا هو بالكثيف أو الخفيف، وإنما منفوشة نهاياته ومتفرقة، ذائبة في لحيته النامية.

كان مستمعوه ينظرون إليه، ثم يهزون رءوسهم بين موافقين وقانعين بالسكوت، فإنهم يعرفون أن لا نتيجة من وراء جداله، وأنه إذا قال شيئا لا يتحول عنه ولو أعطوه مال قارون.

ولم تكن لهجته تتغير حتى حين يكلم الحج طه. والحج كان يستأجر المكنة من صاحبها الذي له في البندر بيوت وماكينات، ولم يكن الحج أول مستأجر ولا صاحبها أول صاحب. ففي خلال أعوام كثيرة تقلبت من يد إلى يد، وانتقلت من بائع إلى مشتر، ورهنت مرات وفك الرهن، والأوسطى محمد يتنقل معها، ويلف، وليس بينه وبين مستأجرها كلام أو سلام، فالحج جالس في غرفة الطحين يزن المقاطف والأجولة على «الطبلية»، ويحاول مغالطة الزبائن في كيلة أو نصف كيلة، ويحاول الزبائن الجور عليه، واستعطافه واستجداءه إذا لم ينفع الجور أو يجدي.

والأوسطى محمد ليس له داع بما يحدث، فالعدة هي كل دنياه. لم يكن له زوجة، فقد ماتت من أمد طويل بعد أن خلفت له شحاتة، وما تزوج بعدها أو فكر في الزواج، وإنما علم شحاتة، وكان يطمع أن يرثه في صنعته، ولكن الولد خاب وفسد، وبعد أن رأى الويل في تعليمه أصول الكار ذهب، واشتغل صبيا على عربة نقل في البندر ، وكثيرا ما كان يبيت هناك فلا يراه أبوه أو يسمع عنه.

ولم يكن الأوسطى محمد ساخطا على ابنه أو غاضبا منه، وكان إذا جاءت سيرته أو حكى واحد أنه رآه، يصمت وتتعمق ملامحه، ثم يقول: خليه يشوف اللي شفته.

وأهل البلد كلهم كانوا يعرفون الأوسطى، ويسلمون عليه ويحيونه، إلا أنه لم يكن يعرف منهم، مع طول إقامته بينهم، إلا القليلين. ولم يكن يسهر إذا عن له السهر إلا مع عائلة الهواشمة التي تصنع الأقفاص، فكان يضمهم سطح منزلهم، ويجلسون بين أكوام الحطب، وتدور كراسي الدخان الحاف، ثم يتركهم الأوسطى ويذهب لينام في بيته ذي الغرفة الواحدة التي لها طاقة صغيرة عالية، وكان قد استأجر البيت يوم جاء بخمسة قروش في الشهر من نعسة أم هاشم. وماتت نعسة وتركت له بنتها التي تذهب إليه كلما قرصت الحاجة زوجها، وعلى كل ثدي من أثدائها ذباب وطفل معلق، تطالبه بالقرشين.

صفحة غير معروفة